المثقف خارج العزلة..

عندما نتتبع الحال العربي اليوم نصاب بالاكتئاب.. لماذا. ! ذاك يعود لجملة أسباب إنّما سوف أحصرها في قناة حال الثقافة والمثقف تحديدا، وقد اتخذت قرارا بإيقاف برنامجي التلفزيوني المتخصص في عالم الفكر والأدب والإبداع بسبب الواقع هذا.. فالمثقف الذي كان داعية للتغيير هو ذاته اليوم يخشى المتغيرات التي تفاجئه وتصطدمه، يهاجم الغزو الثقافي وما هو إلاّ ثمرة من ثمار الثقافة الغربية، يمارس الوصاية على المجتمع والأمة فيما الناس لم تعد تكترث بدعواته وأطروحاته، يطالب بتغيير الواقع لكنه لا يُحسن سوى نفي الوقائع، شعاره الحداثة لكنه يتعامل معها بصورة جدا تقليدية وشكلانيّة، يدعو ممارسة النقد ويمارسها على غيره بتجريح وعندما يُنتقد (بضم الياء) يعتبر أن ذاك ضد الوطنية والثقافة بل قد يصل إلى درجة التخوين والتكفير، يتعامل مع العقلانية والديمقراطية كما لو أنها ما ورائيات فيما هي مراس ذاتي ويومي وصناعة دائمة، يعتبر نفسه مناضلا تنويريا لكنه يتصرف بعقلية الضحية، يدعي عشق الحرية فيما هو يمارس انتهاكها على أرض الواقع، يعتبر أنّ مشكلته مع السلطات في حين أن المشكلة في أفكاره بالذات النخبوية والنرجسية وفي مشاريعه ومقولاته المُستهلكة (بفتح اللام) وبعقلية هشّة وقوالب جامدة ومناهج قاصرة وقرارات هشّة.. بالتالي أليس مثل هذا المثقف ينطبق عليه ما جاء من تنبؤات تعلن موته أو نهايته..؟؟

أليست مراقبة الاحتضار فيها كثير من الحزن والألم والاكتئاب لا تقل عن مشاعر المُحتضِر ذاته. !؟؟؟
ما بين توصيف محنة الفهم مرورا بمحنة الموقف ووصولا لنتيجة المثقف الجديد الذي نريد ونحتاج اليوم، هناك الكثير من التوصيفات لابدَّ من القبض على مفاصلها المهمة التي تحتاج تفكيك وإعادة بناء بقصدية استيعاب التغيير..

مصطلح "المثقف" الذي يؤرق الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية أصلا مصطلح جديد في الفكر العربي، بل هو كذلك في الفكر الغربي، إذ يعود ابتداعه في الثقافة الألمانية والروسية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي الثقافة الفرنسية إلى نهاية القرن نفسه بعد ارتباطه بالقضية الشهيرة تاريخيا دريفوس، وهذا لا يعني أن مضمون المصطلح لم يكن موجودا قبل ذلك، لكننا نتحدث هنا عن نحت المصطلح لغويا ومن ثم أخذ مجاله واتسع بدلالاته..
فقد ولد المصطلح كنتيجة للثورة التي أعلنها جمع من الأدباء والمفكرين الفرنسيين، ومنهم: إميل زولا واناتول فرانس وليون بلوم لحظة احتجاجهم الصارم ضد السلطات القضائية والإعلامية والأدبية الكلاسيكية المحافظة وبالتالي السياسية التي وافقت على إدانة رجل بريء بسبب دينه وجنسه في قضية دريفوس عام 1898، ومنذ ذلك التاريخ مُنحت شهادة ميلاد لمصطلح "المثقف" مباشرة بعد بيان المثقفين الشهير..
كما يذكر التاريخ لزولا في محمل دفاعه عن دريفوس، أنه بدأ رسالته بكلمته الشهيرة التي باتت جزءا من التاريخ وأساسية لدور ومهمّة المثقف "إني أتهم". وبالتالي ولد مصطلح المثقف في لحظة ضمير إنسانية أصرّ فيها الأدباء وعلى رأسهم زولا فتح التحقيق وإثبات براءة المتهم..
ومثل هذه اللحظات - التي أعتبرها شخصيا كونية – كونها شديدة الشفافية في إنسانيتها لا تتخلّق من العدم، إنما من خلال الخبرات والتراكم القيمي والفهم والوعي بها، وهو الخيط أي القيم الذي أحب تناوله في معرض تعقيبي هنا والتوقف عنده بشيء من التحليل في استعراض أبرز القيم المؤثرة واقعيا في مجتمعاتنا وما القيم التي نحتاج لتثبيتها للخروج من العزلة والموات، وتحديدا القيم المجتمعية وأثرها في المتغيرات حول ماهية ودور المثقف اليوم خصوصا في اتخاذ مواقف محددة من طبيعة الصراع الثقافي بين اتجاهات متنافرة متصارعة ووجوده وسط هذه المساحات..

أعتقد أن أبرز ما نحتاجه اليوم هو التوصيف الاجتماعي وليس السياسي كما هو شائع بين الأوساط لإجراء التغيير في المجتمع، وليقوم المثقف بدوره فاعلا محركا لابد له من فهم هذه القيم ونقدها واتخاذ موقف منها تحليلا ودراسة وفعلا.

يلاحظ أن أكثر ما تتميز به القيم الاجتماعية في سياق الحديث عن التغييرات أنها تميل وتتمثل في الصراع بين الاتجاهات الفكرية والقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفاعلة في المجتمع. كما أنها متعددة المصادر والأبعاد. وقد اعتادت أي العلوم الاجتماعية التمييز ما بين القيم الوسيلية "المتعلقة بالوسيلة الفضلى" والقيم الغائيّة "أي ما يتعلق بمعنى الحرية والغاية التي يجب أن نصارع من أجلها" رغم صعوبة الفصل بينهما بشكل كليّ.
فالقيم الوسيلية هي تلك المعتقدات التي تفاضل بين سلوك وآخر كالقول مثلا: إن الصدق لدى الإنسان أفضل من التستر لمصلحة ما أو خوفا من نتائج سلبية أو تجنبا للإيذاء وهذه منتشرة جدا في أوساطنا المجتمعيّة. أو أن نقول الشجاعة تعتبر أفضل من الخوف ومن الحرص على السلامة بالجبن. أمّا القيم الغائية فهي التي تتحدد بها غالبية معاني الحياة وغاياتها أو ما يسعى إليه الإنسان جاهدا كي يحقق به معنى وجوده وما يريده لنفسه ولغيره في الحل الأخير. من ذلك قيم العدالة والحرية وتحرير الوطن والكرامة والمحبة والمساواة الخ..
وللقيم الاجتماعية مصادر مختلفة في الثقافة العربية مثل: الدين والعائلة والبنية الطبقية والنظام السائد. وهناك قيم أهل الصحراء المستمدة مباشرة من طبيعة تفاعل البدو في بيئتهم الصحراوية فتشمل قيم العصبية القبلية (كالتضامن والتكافل ونصرة القريب والافتخار بالنسب والثأر والشرف) وقيم الفروسية (الشجاعة الرجولة الإباء الشهامة الخ)، وقيم الضيافة، وقيم الحرية الفردية وقيم البساطة في العيش..
وهنالك أيضا قيم القرية المستمدة من حياة الريف والتي تشمل قيم التعلق بالأرض (كحب الطبيعة والخصب والصبر والأمل والعفوية الخ) والقيم العائلية (كالأمومة والأبوة والأخوة والتكاتف والنسب واحترام المتقدمين في السن) وقيم المعيشة (كالمثابرة والصبر والجيرة والمسالمة والبساطة) إضافة لشخصنة القيم الدينية كشخصنة الإيمان كما يظهر من التمسك بالأولياء والمزارات والطقوس والرحمة وإيفاء النذور الخ.. والقيم الطبقية (كالوجاهة والمباراة والتنافس والكرم)، وقيم الزمن (كالفصول والمواسم)، الخ..
وهنالك أيضا قيم المدينة حيث تسودها القيم التجارية (كالربح والنجاح والطموح والسعي في سبيل الكسب المادي) والقيم الاستهلاكية (كالرفاهية واقتباس المستحدثات والتجمل واقتناء ما هو أبعد من الضروري)، ونظرا لأن الطبقية تكون أكثر وضوحا في المدن نجد الاختلافات واضحة بين القيم السائدة بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة والغنية.
وكذلك تختلف القيم الدينية بين أهل المدينة عما هو عليه بين أهل القرية وأهل الصحراء بسبب رسوخ ومركزية السلطة والمؤسسات الدينية في المدينة، فيكون التشديد على أهمية التمسك الحرفي بالسنة والنصوص. وتحتل الكلمة مكان الأفضلية بالمقارنة مع شخص الإنسان، وذلك على عكس ما نشاهده في السلوك الديني في القرى حيث يميل المؤمن للتمسك بالشخص أكثر من الكلمة كما يبدو من نزعة أهل القرية للتمسك بأهل البيت والأولياء كوسطاء بين المؤمن والله وهذا ما نلحظه في التراث الديني الشعبي بوضوح.
أمّا على صعيد المجتمع العربي ككل فإننا نجد أنّ القيم كثيرا ما تُستمد من العائلة والدين بالإضافة إلى أنماط المعيشة والبنية الطبقية. وبالتالي يُشكل الدين مصدرا هاما للقيم الثابتة والمطلقة التي لا تناقش باعتبارها غير منبثقة عن أوضاع اجتماعية بل منزلة تصلح لكل زمان ومكان، فيكون التشديد على تقليد السلف أي البشر وتقييم الأمور حسب تطابقها مع النصوص وتاريخانية الحدث بدلا من الابتكار والإبداع بضوء قناعات داخلية نتوصل إليها من خلال البحث الموضوعي المستقل.
المشكلة تصب في حدوث التغلغل والتداخل فيما بين الحياة البدوية والريفية والمدينة وبالتالي تداخل القيم الإيجابية والسلبية فيما بينهم مما ينجم أنماطا جديدة من القيم المجتمعية شديدة الرسوخ..

ومن الممكن أيضا إعادة بعض القيم السائدة في المجتمع العربي اليوم إلى أصولها في البنية العائلية والاقتصاد العائلي الذي يتميز به المجتمع العربي حيث تسود فيه قيم الولاء للجماعات على حساب الولاء للأمة والمجتمع ككل، وللخاص على حساب العام. ومن بين أهم القيم المستمدة مباشرة من البنية العائلية ما يمكن تسميتها القيم العمودية وتميزها عن الأفقية، حيث تستمد مباشرة أي العمودية من نوعية العلاقات وتوزيع العمل في الأسرة، وتسود في المجتمع على أساس توزيع العمل بين الرجل والمرأة، الكبير والصغير، فتتصف العلاقات بالتفاوت في القوة والسلطة والمسؤولية والمكاسب والحقوق والواجبات فيكون التنظيم الاجتماعي تنظيما أبويا. وفي مثل هذه الحالة تسود علاقات القوة التي لا تنازع. وتتعمم هذه العلاقات العمودية من العائلة إلى جميع المؤسسات الأخرى بما فيها الاقتصادية والسياسية والتربوية.
أمّا في حال القيم الأفقية فتسود علاقات المساواة والصداقة والزمالة والتعامل على أساس الحقوق والواجبات المتوازية.
ونظرا لأن العائلة هي نواة التنظيم الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع العربي، لذا نلحظ أنها المصدر الأهم للقيم السائدة بالإضافة إلى أنماط المعيشة، مما جعل ابن خلدون يقول: إن اختلاف الناس في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. لذلك نجد أنه في حال تعارض أيّ قيم مهما كان مصدرها مع القيم العائلية تكون الأولوية في واقع الحال للقيم العائلية التي هي واقعيا الأكثر تأثيرا في السلوك من أية مجموعة قيم أخرى، وبالتالي نجد أن الكثير من القيم الدينية مثلا لها جذور في التكوينات العائلية وليس العكس، وهذه إحدى اشكالياتنا اليوم.

سأكتفي بما سبق للوصول إلى الصراع القائم في الثقافة العربية بين الاتجاهات القيمية وعلى ضرورة تحديد مواقفنا بناء على مستلزمات التغيير الثقافي المطلوب وهو التغيير التجاوزي الذي يكون به التحول من حال إلى حال في سبيل تهيئة مجتمعية بكل قطاعاتها للمستقبل، وفي سبيل تعزيز دور المثقف المبدع في تحديد موقعه من الصراع المستمر بين هذه الاتجاهات القيمية ليساعدنا مجتمعيا على الأخذ بتلك القيم التي نرى فيها فائدة أو استئصال ما هو غير مجدٍ مهما كانت المعوقات إن أردنا الخروج من أزمتنا المجتمعية..
أبدأ بقيم الإرادة الحرة وحق الاختيار وتحمل الفرد لمسؤولية التصرف.. هذا ما ستحققه الميديا الحديثة اليوم أو ما سوف تساهم فيه كوسيلة بيد المثقف المبدع لو تمكنا إجراء التحديث والتغيير في الذات الفردية ليكون فاعلا لقيم الإرادة وتحمل المسؤولية.. وهذا يعني انه لا بد من اعتبار أن الإنسان مخير، وأنّ للإرادة الإنسانية دور فاعل في تغيير مجرى الأحداث التاريخية بدلا من قيم المعجزات التي تكرس على أنه كائن مسيَّر وبالتالي يصير حسب القيم الأخيرة فاضلا بقدر ما يعتصم بثقافة الصمت وقبول الأمر الواقع والاتكال على الغير والرضوخ..
ربما يعتقد البعض أن الدعوة لترسيخ قيم الإرادة والحرية والتأكيد على المسؤولية الفردية فيها على أنها قيم غربية كما نلحظ في الأدبيات العربية، إنما الحقيقة تؤكد أصولها في ثقافتنا ومن ذلك قول عبد الرحمن الكواكبي: إن القضاء والقدر هما السعي والعمل.. كذلك لو نبشنا في الأمثال الشعبية لوجدنا أمثلة حصيفة مثل: أمل بلا عمل شجر بلا ثمر، وان نام الدهر لا تنم له.. ومن هنا تتضح أهمية التغيير التجاوزي والاستقلالي وبناء القناعات الشخصية الحرة مقابل قيم الامتثال القسري والخضوع لرأي الجماعة، وخاصة إننا في مرحلة المابعديات وزمن الأمركة التي ستحارب بضراوة مثل هذه القيم وسوف تنضم للمعسكر المنزرع فينا ممن يؤمنون بالجبرية وقيم الامتثال واحترام أولي الأمر منكم..
ننتقل إلى القيم المستقبلية التي تؤكد على الإبداع والابتكار والتفرد والتجدد والريادة والخروج عن المألوف والمفاهيم الجاهزة، وتخطي العادي والتحديث والتخطيط والانفتاح من موقع الثقة بالنفس وعلى أسس مدروسة تتنافذ وتنفتح على الثقافات الأخرى دون خوف، بدلا من قيم الثبات على الماضوية والتوفيقية والتمسك بالمعلوم ورفض المجهول والتي هي ذات أصول في الثقافة التقليدية وخاصة ما توارثناه من أزمنة الضعف والتخلف.. فالثقافة المطلوبة لمواجهة تحديات العصر هي ثقافة التجريب والبحث والابتكار والتجاوز انطلاقا من احتياجات المجتمع وقضاياه الكبرى.. علما أن قيم الابتكار والإبداع والتحديث كانت دوما جزء أصيلا من التراث العربي وهذه من أهم سمات المثقف المبدع في هذا العصر الشقي الذي نعيشه ونسعى للخروج منه بأقل الخسائر الممكنة وقد التصقت بأسماءنا سمات الاستهلاك التي لم تكن يوما آدمية الصفة..
القيم الاجتماعية النسبية: غير المطلقة وتختلف من مجتمع وحضارة إلى مجتمعات وحضارات أخرى، وتختلف أيضا ضمن كل مجتمع وثقافة باختلاف جماعاته وطبقاته وباختلاف أنماط المعيشة والأزمنة.
ومقولة القيم النسبية هي من بين أهم ما يتميز به المثقف المبدع عن المثقف التقليدي ويرافقها مقولات تدعو للتسامح واحترام حق الاختلاف واللجوء إلى الحوار بدلا من العنف في التوصل إلى حل النزاعات. وهذا حقا ما ينطبق على ظهور التحديث والحداثة في الثقافة المعاصرة ذات السمة الإنسانية والتي ما تزال في مرحلة التشكل.
ومن هذا المنطلق يكون المجددون من المثقفين هم الذين يهيئون للتراث الاستمرار والحيوية لا أولئك الذين يحنطونه بالتكرار والتقليد وتكون الحداثة انتقالا من الوصف أي الفعل المحافظ وإعادة إنتاج الموجود مسبقا إلى الكشف وتجاوز للمثال عبر صيرورة دائمة مستفيدة من التعددية والاختلاف.

قيم العقل والعقلانية: غالبية مفكرينا اتفقوا على أن مجتمعاتنا وثقافتنا السائدة تنحوا منحى تغليب قيم العاطفة والانفعال على قيم العقل كما يظهر من التصرف العاطفي بدلا من التصرف العقلاني في مواجهة الأزمات. وأستحضر هنا مقولة المفكر محمد عابد الجابري من أن: الخطاب العربي الحديث والمعاصر كان في جملته ولا يزال خطاب وجدان وليس خطاب عقل..
كما نستدل على ذلك من الانفعالات إزاء الأحداث، وبالتالي بات من الضروري بمكان السعي لتنمية القيم العقلانية في كافة المجالات وخاصة ما يتعلق منها بصنع القرار في الأزمنة الصعبة كتلك التي نعيشها في الوقت الحاضر. علما انه قد كان هناك تيارا فكريا ناشطا في الثقافة العربية منذ النصف الثاني من القرن الماضي ومن نادى بالعقلانية كما نلحظ من كتابات شبلي شميل وقاسم أمين ولطفي السيد وطه حسين وعلال الفاسي وقسطنطين زريق وغيرهم.. وبالتالي خلاصة أطروحاتهم تتمثل في أن التحول الثقافي كي يكون فاعلا لابد أن يكون جوهريا، ويقتضي الكفاح في سبيل تحقيق قيم العقلانية التي بدونها لا يمكن لأي مجتمع التقدم ولا حتى أن يوجد. وتشتمل قيم العقلانية على قيم موضوعية وواقعية والانتهاج العلمي والالتزام الأخلاقي والتساؤل والشك وغيرها..
ولقد بات من الأهمية بمكان الحفاظ على العقل باعتباره ملكة تمتلك مقومات الوعي بالضرورات الملحة والحاسمة، العقل الذي يقرأ المتباينات والمتغيرات، الذي يحلل ما يدور خلف الكواليس وأمامها الذي يترجم بقاءنا على قيد الحياة والقدرة على رسم المواجهات التي باتت مختلفة اليوم عما كانت عليه قبل عقد وعقدين وقرن من الزمان..

قيم المضمون أو المعنى.. نحن بأمس الحاجة لتعزيزها في صراعها مع القيم الشكلانية أو اللفظية كما نلحظ بنزعة الظاهرة الصوتية المنتشرة جدا بين أوساطنا، وكل هذا الاستظهار والترداد والتكرار والاسترسال والتخوين دون تمحيص ونقاش وتحليل، ونزعة التربية القائمة على التلقين لا البحث الحر والجدل والنقاش، وعلى نزعة غلبة الخطابة على الكتابة، والوصف على التحليل، والفصل بين المعنى واللفظ أو اللعب على أوتار الكلام بدلا من الدقة. ولذلك كثيرا ما نبدأ باللفظة التي تبحث عن فكرة بدلا من الفكرة التي تبحث عن تعبير لفظي..
صحيح أنّ الثقافة العربية أشمل من أن تنحصر في نزعة واحدة ولكن الواضح في بعض الحالات تغليب نزعة اللفظ على نزعة المعرفة والمعنى، وفي هذه الحالات يكون من الضروري العمل على تعزيز قيم المضمون ومعرفة الحقائق معرفة موضوعية، وخاصة إن أردنا فاعلية وتواجدا وتأثيرا في عصر حمل تسمية المعرفة والمعلوماتية..

قيم الانفتاح على الحضارات الأخرى والرأي الآخر.. نحن نشهد في الثقافة العربية صراعا خطيرا بينها وبين قيم الانغلاق والقطيعة والتمسك بالأصول خوفا من الامّحاء زمن ثورة المعلومات وسقوط معنى الحدود الجغرافية. وما تجب الدعوة إليه وتبنيه في هذه الحالة ليس ذلك الانفتاح الذي يقبل كل ما يرد من غثّ وتقليده ومجاراته وتبنيه كما هو حاصل اليوم من تبني بعض المثقفين وحتى المفكرين عبر ما يسوقونه من حجج وتبرير الأشكال الفنية – من تشكيل ونحت وغناء ودراما – الناجمة عن الثقافة الاستهلاكية – إذ أننا مستهدفون في الانصياع لثقافة الاستهلاك التي تسودها قيم السوق التجاري – إنما وفي ذات الوقت الخوف والرغبة الجامحة في حماية الإنسان فينا من تعبير المُستهلِك لا يبرر على الإطلاق الانغلاق الذي يرى في كل الابتكارات من قبل الشعوب الأخرى نبتا غريبا وبضاعة مستوردة لا مصلحة لنا فيها.
الثقافة العربية نفسها تركيب معقد كنتيجة لتفاعل عميق ودائم مع عدد كبير من الثقافات والحضارات داخل المنطقة العربية وخارجها ولزمن طويل. لذلك من أبرز مسؤوليات المثقف العربي المبدع اليوم البحث في كيفية تأمين التفاعل الخلاق. وفي رأي لابد من المواجهة الحرة من منظور استعادة السيطرة على المصير. وهذا يقودنا إلى أهمية قيم الإنتاج لا الاستهلاك لنتغلب على التبعية التي تلحقنا بالغرب، حيث مكنته هذه التبعية من محاصرتنا وعزلنا ومعاقبتنا وشن الحرب علينا حينما شاء ويشاء.

قيم التمرد والتحرر.. ويستدعي ذلك التساؤل ما القيم التي يجب التشدد عليها في تنظيم العلاقات الاجتماعية إن كان داخل المؤسسات أو بين الأفراد والجماعات: هل نشدد على قيم الطاعة والامتثال والانسجام والصبر والقبول بواقع الأمر أم قيم التساؤل والاقتناع الشخصي والتمرد في وجه الظلم والاستبداد وتغيير الواقع والفعل التاريخي بدلا من الانفعال والاتكاء على نداءات: وا معتصماه، فنصبح من ضحاياه وليس من صانعيه..
ومسؤولية المثقف المبدع العمل على توعية الناس بحقوقهم في المشاركة بما في ذلك الموجودة اليوم وبحدّها الأدنى بدلا من هذا الزخم من النتاج السوداوي الإحباطي والحاق كل الخطايا والإخفاقات بشمّاعة السياسي، فهذا أيضا شكل من أشكال الترويج الثقافي لقيم الانصياع.
ونجد أيضا في الثقافة العربية صراعا عجيبا بين قيم الاستسلام والطاعة من ناحية وقيم الحرية والتمرد من ناحية أخرى إلى حد تفتيت قيم ومعاني الحرية والتمرد وتوزيعها على مستويات، بمعنى تحول فئات المجتمع المؤثرة إلى عدوة لأبرز القيم المجتمعيّة كالحرية، التي لا تفكيك لها ولا تعني مفردة سواها ونحتاجها بكل أبعادها ودلالاتها إن شئنا النهوض..

أنتقل لقيم القدرة على رؤية حقيقة الغموض والتعقيدات في الواقع المعاش.. لابد من تشجيعها في صراعها مع تلك القوى ذات النزعة التبسيطية الاختزالية كما نلحظها في المشهد الثقافي ووسائل الإعلام. لا شك أنه من الصعوبة بمكان التعامل مع التعقيدات والغموض ولكن لابد من التدرب في التعامل معها، لإيجاد الحلول الحقيقية بدلا من الوهمية التي لا يمكن تحققها.
ومن المسائل الهامة ضرورة دراسة النزوع الواضح فينا مجتمعيا للتفكير الثنائي وهي نزعة شديدة الرسوخ في الحياة الثقافية العربية بمعنى: هذا وطني وهذا خائن فقط لمجرد الاختلاف، وبالتالي بات لزاما علينا إعادة النظر في الاختلاف على أنه امتداد واسع بين قطبين. فالحياة ليست أبيض كليا وأسود كليا فهناك مسافات وتفاعل فيما بينها بمعنى وجود احتمالات عديدة واقعة بينهما..
ما الذي جعل من جبران خليل جبران مبدعا إنما يعود ذلك لمحاولته الواعية التحرر من المواصفات والمفاهيم الضيقة للثنائية وتجاوزه إياها: العقل والقلب، الروح والجسد، النور والظلام، الإيمان والكفر، أو الإيمان والعلم، السماء والأرض الخ.. وذات الشيء يروح لأدونيس الذي وجد في هذه الثنائية على أنها المشكلة القديمة للحضارة العربية وأن طبيعة هذه المشكلة أساس ما أوصلنا إلى الثنائية التبسيطية الحديثة: العرب والغرب، النبوة والتقنية، حق وباطل، خير وشر، إيماني وملحد.. كذلك زكي نجيب محمود الذي اعتبر في كتابه "تجديد الفكرالعربي" أن الثنائية هي إحدى جوانب الخصوصية العربية التي يجب تجاوزها..
وبالتالي ونحن نتحدث اليوم عن المثقف في انعزاله ومواته أو ضرورة إحياء دوره فهذا الأمر مناط به وبقدرته على إحياء ذاته وسط ثقافة تهيمن عليها القيم التقليدية والمتناقضة. وفي هذا التناقض بذور القوة عبر ما نسميه بالتنوع القيميّ. فلابد من الوعي بطبيعة الصراع والعمل على تعزيز قيم الإرادة الحرة والتمسك بالمسؤولية التاريخية للمثقف في مقولة "إني أدين" من القول إلى الفعل، وتعزيز القيم مجتمعة متكاملة متنوعة لا الاكتفاء ببعضها واختزالها بثنائية أو أحادية قمعية.

تعوز المثقف اليوم الأحلام لا الكوابيس والتحرك الواقعي لا التخيلي، وتضمين القيم الإيجابية في النتاجات سواء الإبداعية أو الإعلامية، واستعادة السيطرة على حياته أولا ومن ثم حيث المؤسسات والمنتوجات ليخرج من حالة الاغتراب والعزلة والعجز إلى حالة الإبداع والتغيير التجاوزي..
لذا لم تعد المهمة الآن رفع الشعارات بعدما استُهلكت، ولا كشف الحقائق الخاوية لأنها في متناول الجميع بلا استثناء في عصر وسائط الميديا الحديثة، ولا الاستسلام لأننا نمتلك الفعل النضالي عبر المراجعة والنقد والاعتراف بالمتغيرات.. المهمة الآن ابتكار الأفكار بالإستناد إلى الحقائق بغية فتح الآفاق المسدودة أمام العمل أو استخراج إمكانات جديدة للممارسات الاجتماعية والسياسية. بمعنى أن الفكرة الخصبة والخلاقة ذات أثر قوي ومفعول خارق أكثر بكثير من اللغة التعبوية والمواقف الشعاراتية..
ولكن الاعتراف بالموات والاكتئاب والهزيمة ليس عيبا بل العيب أو الخطورة في عدم الاعتراف بذلك والاستمرار في خداع الذات من تحقيق انتصارات وهمية خادعة للذات وللشعوب العربية.. الاعتراف بالهزيمة فيها من التراجيديا النبيلة الشيء الكثير الجدير بدفعنا لمراجعة الذات..
إميل زولا مات ولكن ومنذ لحظته الإنسانية تلك في موقفه الشجاع " إني أدين" وكل البشرية اليوم على امتداد الكرة الأرضية باختلاف ألسنتهم وجنسياتهم وألوانهم وأطيافهم وثقافاتهم يناقشون اليوم كيفية تعزيز دور حكمة المثقف بمواجهة عولمة متغولة على البشرية..
الاعتراف هو إنشاء وتركيب ونظر لما كنَّاه وما نحن وما نريد أن نكون.
وهنا وعربيا لابد من استحضار بعض الأسماء التي كانت واقعية الرؤية ومنطلقة من القيم في تحليلها الفكري لإعادة نقد الذات لا جلده على نحو جذري، وكان على رأس قائمة النقد: اختلاط الأدوار والقيم، وهي الجزئية التي حددت تناولها في هذا المقال، حيث صدرت كتابات نقدية متميزة مثل: "نهاية الداعية" لعبد الإله بلقزيز، و"نهاية المثقف" لعلي حرب، و"صور المثقف " لإدوارد سعيد.
ولعل نشوء وعي بهذه الأدوار يكون فاتحة عهد جديد في الوعي الاجتماعي الثقافي في العالم العربي والإسلامي قد تبشر بآفاق جديدة في المعرفة والاشتغال بالشأن العام بعيدا عن صخب الشعارات والعزف على أوتار الانفعال الشعبي..

بريهان قمق: كاتبة أردنية

11/4/2005

أفق الثقافية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon