رئاسة مجلس الوزراء تهيمن على مجلس الدولة

العنوان الأصلي: "رئاسة مجلس الوزراء تهيمن عليه.. مجلس الدولة يحتاج إلى حصانة كاملة"

دأبت السلطة السياسية والحكومة في قطرنا بكل الوسائل المكتوبة والمسموعة والمرئية في طرح قضية الإصلاح القانوني والقضائي ليكونا حافزين لتقدم القطر اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وإدارياً، لأنهما الأساس الصلب والسيادي في المحافظة على كيان الدولة والشعب ومواكبة التطور والتقدم.
وفي هذا السياق أطرح للنقاش قضية إصدار قانون جديد أو تعديل قانون مجلس الدولة الصادر برقم 55 تاريخ 21/2/1959، والذي انقضى على صدوره ما يقارب نصف قرن، إذ لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان كما تقول القاعدة الفقهية.
وهذا المطلب يجمع عليه الزملاء المحامون الذين يترافعون أمام القضاء الإداري منذ عقود من الزمن، وأيضاً يعبر السادة القضاة في مجلس الدولة عن هذه الرغبة بقناعة تامة.
والملاحظات التي نطرحها في هذه الدراسة المتواضعة لتعديل قانون مجلس الدولة تتناول ناحيتين:
الأولى: من حيث الشكل.
الثانية: من حيث الموضوع.

أولاً: نصت المادة 4 من قانون مجلس الدولة على أن:
"1 يكون مقر المحكمة الإدارية العليا ومحكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية في دمشق.
2 ويجوز إنشاء محاكم إدارية في المحافظات بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء."
كما هو صريح النص فإن المشرِّع (وقتئذ) حدد حصراً في الفقرة 1 من هذه المادة أن تكون دمشق "العاصمة" مقراً للقضاء الإداري والمحكمة الإدارية، ولكن المشرّع في الفقرة الثانية من المادة نفسها أجاز إنشاء محاكم إدارية فقط في باقي المحافظات.. لماذا؟
ابتداءً: إن توصية المشرّع الموجهة لمجلس الوزراء لإنشاء محاكم إدارية في باقي المحافظات منذ عام 1959 لم تتم حتى تاريخه رغم مرور نصف قرن تقريباً على ذلك.
وبالتالي فإن إغفال مجلس الوزراء توصية المشرّع بإنشاء محاكم إدارية في باقي المحافظات، وتقصيره بذلك ألحق بالمواطنين عبئاً ومشقة ومعاناة قاسية في كل محافظات القطر، وتكبدهم مصاريف ونفقات مالية يعجزون عن تأمينها.
وهذا واقع لا ينكر، فلمواجهة القضاء الإداري في دمشق (وخاصة في الخلافات العمالية) يضطر المواطن صاغراً لتوكيل محام أو تكبد نفقات الانتقال، وهو لا يملك مالاً موفراً من دخله الشحيح.
إضافة إلى ذلك قد يطول أمد الدعوى سنين، فيعزف عن متابعة دعواه قائلاً: حسبي الله ونعم الوكيل.
لذلك ومراعاة لمصلحة الشعب (الذي تصدر الأحكام باسمه) وتحقيقاً للعدالة وتسهيلاً لسرعة البت في الدعاوى من قبل القضاء الإداري من الواجب واللازم إنشاء محاكم قضاء إداري ومحاكم إدارية في محافظات القطر كافة.
حين صدر قانون مجلس الدولة عام 1959 كان عدد السكان في سورية خمسة ملايين نسمة فقط، وقد أصبحوا في الوقت الحاضر عشرين مليوناً، وبالتالي فإن قانون مجلس الدولة أصبح عاجزاً عن تلبية مصالح الناس، فالنمو السكاني يؤدي إلى ازدياد وتضخم الخلافات بين المواطنين والدولة.

ثانياً: حول مهام المحكمة الإدارية العليا ومسؤولياتها:
من الثابت أن المحكمة الإدارية العليا تتربع على سدة القضاء الإداري، والمشرّع حصر وجودها في دمشق أسوة بمحكمة النقض التي تتربع على سدة القضاء العادي. وبالمقارنة فإن محكمة النقض تتكون من غرف عديدة تبت بالطعون التي تُرفع إليها في القضايا المدنية، ولكل غرفة اختصاص تتناول النزاع العقاري أو المالي أو الإيجاري أو غير ذلك، والنزاع الجزائي تبت فيه ثلاث غرف: الجنائية والجنحية والعسكرية. وبالمقابل فإن المحكمة الإدارية العليا، وهي غرفة واحدة في مجلس الدولة، تنظر في جميع الطعون التي تصدرها محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية والمحاكم التأديبية، سنداً لأحكام المادة 15من قانون مجلس الدولة. كما تنظر المحكمة ذاتها في جميع الطعون على الأحكام التي يطعن فيها طرفا الدعوى التي تصدر عن المحاكم البدائية بصفتها محاكم قضاء إداري، في معرض تطبيق القانون الأساسي للعاملين في الدولة.
ويرأس المحكمة الإدارية العليا السيد رئيس مجلس الدولة، مع مستشارين من مجلس الدولة. والمحكمة الإدارية العليا وحدها تنظر بجدارة وكفاءة متميزة بأكثر من خمسة عشر ألف دعوى في العام (الرقم تقريبي).
إذ حين تعقد المحكمة الإدارية العليا جلسة للنظر في أضابير الطعون المتكدسة على قوس المحكمة، والقاعة تغص بالمحامين والمتداعين من مختلف محافظات القطر، فإن عدد الدعاوى في جلسة واحدة يربو على الأربعمئة دعوى، ثم تؤجل الدعوى لمدة تزيد على ثلاثة أشهر. وبالطبع فإن العذر كل العذر للمحكمة الجليلة لأنها تدرس وتقرأ وتصدر أحكامها بحدود طاقتها، والمهمة المقدسة أكبر من ذلك. وهذا يؤدي إلى إطالة أمد الدعوى لفترة زمنية غير معقولة، وهذا ما لاحظه الزملاء الذين يترافعون أمام المحكمة الإدارية العليا.
لذلك فإن الحاجة والضرورة ومصلحة القضاء الإداري والمتقاضين تقتضي تعديل قانون مجلس الدولة، أو إصدار تشريع جديد يتبنى بجديةٍ توسيع هيكل القضاء الإداري بإنشاء أكثر من غرفة للمحكمة الإدارية العليا تعتمد الاختصاص في رؤية النزاعات القضائية، بحسبان أن العصر يتميز بالتخصص في كل شيء. وعلى سبيل المثال، وهو مما نستمده من الواقع، لابد أن تشكل غرفة إدارية عليا بكامل هيئتها تختص بالبت في طعون استملاك العقارات وما تفرع عنه، وغرفة إدارية عليا بكامل أعضائها ثابتة تختص بالبت في الطعون العمالية والمحاكم المسلكية، وغرفة ثالثة بكامل هيئتها للبت في بقية النزاعات والطعون.
ويترأس السيد رئيس مجلس الدولة إحدى الغرف ويتم تشكيل محاكم باقي الغرف من رئيس ومستشارين حين توزيع العمل من قبل هيئة الجمعية العمومية المنصوص عليها في المادة 38 من قانون مجلس الدولة. لذلك فإن تعدد غرف المحاكم الإدارية العليا وفق اختصاصاتها يتيح لكل غرفة الوقت اللازم والتفرغ لما تقضي به بكل دقة علمية من دراسة الدعوى واستقراء واستيعاب لها كي يصدر الحكم بالعدل والحق.
وهذا الطريق يزيح عن كاهل المحكمة الإدارية العليا عبئاً ثقيلاً ومسؤولية تناقض الاجتهاد لأحكام الصادرة عنها، وأيضاً ييسر ويسهل مصالح المتقاضين ويرفع عن كاهلهم المعاناة والمشقة لمتابعة حقوقهم المودعة بأضابير الدعاوى القائمة في دواوين مجلس الدولة.

ثالثاً: حول ضرورة إصدار تشريع أصول المحاكمات لدى مجلس الدولة:
نصت المادة 3 من قانون مجلس الدولة على أنه:
"تطبق الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون، وتطبق أحكام قانون المرافعات وقانون أصول المحاكمات فيما لم يرد فيه نص، وذلك إلى أن يصدر قانون الإجراءات الخاصة بالقسم القضائي".
النص واضح وصريح، فمنذ صدور قانون مجلس الدولة في عام 1959 لم يصدر المشرّع قانوناً خاصاً يتضمن أصول المحاكمات للهيئة القضائية لدى مجلس الدولة، الأمر الذي يعدّ شرخاً قانونياً في مسيرة الهيئة القضائية.
وفي هذا السياق نشير إلى أن قانون أصول المحاكمات في القضاء الجزائي والمدني هو العمود الفقري الذي تستند إليه المحاكم في نظر الدعاوى والبت فيها، بدءاً من محاكم الأساس، وتدرجاً إلى محكمة النقض وهيئتها العامة، لأن القواعد القانونية المنصوص عليها في قانون الأصول هي من النظام العام، وكل مخالفة لها مشوبة بالبطلان.
وقد لمسنا أثناء المرافعات وصدور الأحكام من الهيئة القضائية لمجلس الدولة أنه حين تثار مشكلة أصولية من النظام العام غير منصوص عليها في قانون الإجراءات النافذ، فكثيراً ما يتخذ قرار يخالف صراحة بعض قواعد قانون أصول المحاكمات المدنية، ونعتذر عن سرد أمثلة إذ لا مجال لمناقشتها في هذه الدراسة.
لذلك نرى من الواجب والضرورة أن يبادر المشرّع لإصدار قانون خاص لأصول المحاكمات لدى مجلس الدولة.

رابعاً: حول الاختصاص القضائي لمجلس الدولة
حددت المادة 8 من قانون مجلس الدولة اختصاص محكمة القضاء الإداري بالبت في النزاعات والقضايا التي تنظر فيها، وعددتها بستة بنود، كما حددت المواد 9 و10 و11 من القانون ذاته اختصاص محكمة القضاء الإداري.
وحددت المادة 12 اختصاص محكمة القضاء الإداري السلبي والإيجابي في بعض القضايا.
وحددت المادة 13 اختصاص المحكمة الإدارية في القضايا التي تنظر بها مع بعض الاستثناءات.
أما المادة 14 فقد أكدت اختصاص محكمة القضاء الإداري بالفصل في كل الطلبات والمنازعات المنصوص عنها في المواد 8 و9 و10 و11 عدا ما تختص به المحاكم الإدارية. فهذا التداخل في الاختصاص الإيجابي والسلبي يؤدي لبعض الغموض ولشبهةٍ في الفهم والتفسير. وفي هذا السياق فإن الضرورة والمصلحة العامة تتطلبان صياغة اختصاص محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية بتبويب جديد وتفصيل واضح أكثر شفافية، منعاً للتناقض في الاجتهادات كي يتمكن القضاء الإداري من القيام بالسلطة الموكولة إليه بجدارة وعمل خلاق.

خامساً: حول استقلالية القضاء الإداري
خص الدستور السوري مجلس الدولة بمادة واحدة فقط هي المادة 138 منه، وقد نصت على أنه:
"يمارس مجلس الدولة القضاء الإداري، ويعين القانون شروط تعيين قضاته وترفيعهم وتأديبهم وعزلهم".
وبحسبان أن اختصاص القضاء الإداري يتناول البت في الخلافات والنزاعات التي تنشأ بين المواطنين وبين السلطة التنفيذية بجميع هياكلها من القاعدة إلى القمة، فلا يجوز إلحاقه بالسلطة التنفيذية وفق ما نصت عليه المادة 1 من قانون مجلس الدولة، ونصها:
"مجلس الدولة هيئة مستقلة تلحق برئاسة مجلس الوزراء".
وباعتبار أن قانون مجلس الدولة صدر وأصبح نافذاً في سنة 1959 (في زمن الوحدة) وأنه مستقى من القانون النافذ في مصر، فإن مجلس الدولة في عام 1959 كان ملحقاً برئاسة الجمهورية، إلا أنه بتاريخ 25/10/1961 أصدر المشرّع المرسوم التشريعي رقم 50، ألحق بموجبه مجلس الدولة برئاسة مجلس الوزراء، ومايزال هذا الوضع المتناقض قائماً حتى الآن. وبذلك فإن رئاسة مجلس الوزراء الذي يختزل السلطة التنفيذية والإدارية العليا في الدولة (الفقرة 1 من المادة 115 من الدستور) أصبحت تهيمن على مجلس الدولة في قضايا التعيين والترفيع والتأديب والعزل، كما أن رواتب قضاة وموظفي مجلس الدولة تدفع من ميزانية مجلس الوزراء.

وفي هذا الوضع فإن مجلس الدولة فقد استقلاليته كهيكل وهيئة قضائية، ونزع عنه رداء الحصانة التي تتميز بها السلطة القضائية، وإننا بهذا الخصوص نسرد ما دبجه الفقيه المتميز المرحوم نصرت منلا حيدر:
"الاستقلال حيال السلطة التنفيذية..
ويتجلى هذا الاستقلال في الأمور التالية:
1 عدم تدخل هذه السلطة في تعيين القضاة.
2 حماية مرتب القضاة.
3 عدم تدخل هذه السلطة في ترقية القضاة.
4- خضوع القضاة لنظام خاص بالمسؤولية التأديبية والمدنية.
5 عدم تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية بمواقف سلبة.
وفي سياق الحصانة التي يجب أن تتمتع بها السلطة القضائية والقضاة في مجلس الدولة أكد الفقيه المرحوم نصرت منلا حيدر قائلاً:
"إن مبدأ الحصانة القضائية مرتبط إلى حد بعيد بطريقة اختيار القاضي، فإذا كان الاختيار من قبل السلطة التنفيذية كان مبدأ الحصانة معدوماً أو ضعيفاً إلى حد كبير، في حين لو ترك الاختيار إلى هيئة قضائية كان مبدأ الحصانة واستقلال القاضي عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ثابتاً وبُعدُه عن التأثر قوياً.
وإن حصانة النقل والعزل تعدّ من أقوى العوامل تدعيماً لروح القضاة في الاستقلال وفي إقبالهم على العمل دون خوف من ميل أو هوى أو ترهيب من جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية.
دراسة في استقلالية السلطة القضائية منشور في مجلة المحامون لعام 1977".
ومن الضرورة بمكان أن نقترح بتواضع بعض الآراء والمفاهيم، فيما إذا كان لدى المشرِّع هدف لتعديل أو إصدار قانون جديد لمجلس الدولة، يتصف بالحداثة والتطور ويعبر عن واقع تطور القطر بشرياً واقتصادياً وإدارياً، كي يتصدى لهذا الواقع بجدارة وكبرياء السلطة القضائية، فبدلاً من أن يسمى مجلس الدولة هيئة مستقلة، من الأفضل تشميله وإضافته إلى الفصل الثالث من الدستور الذي حدد السلطة القضائية بـ(قضاء الحكم والنيابة) لتصبح السلطة القضائية محددة بـ"قضاء الحكم والنيابة والقضاء الإداري".
وأيضاً إعادة إلحاق مجلس الدولة والقضاء الإداري برئاسة الجمهورية، بحسبان أن السيد رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور ويضمن السير المنتظم للسلطات العامة. والسلطة القضائية هي التي تصون العدالة وتطبق القوانين بالحق والعدل وتغيث المظلوم وتردع المعتدي وتحافظ على الحريات الشخصية من تعديات السلطة التنفيذية بجميع هيئاتها ومؤسساتها.
لذلك فإن من مصلحة الشعب وحفاظاً على استقلال القضاء وحصانته، وبضمن ذلك مجلس الدولة أن يلحق برئاسة الجمهورية باعتزاز لا برئاسة مجلس الوزراء كسلطة تنفيذية.

وأخيراً: حول مفهوم التشريع:
التقنين هو تعبير عن وجدان الجماعة البشرية وضميرها في سعيها نحو الأفضل والأقوم، ولابد أن يضمن للشعب التقدم المادي والمعنوي والاجتماعي والثقافي والإداري.
ولابد للتشريع أن يتصف بالحيوية وعدم الجمود، لأن القانون هو حياة الشعب، ودائماً يجب أن يختزن في رحم مولده قابلية التطور كي يلبي حاجات الناس بديمقراطية ومساواة، لأن القانون إذا كان جامداً غير قابل للتطور فإنه يشجع غربان البيروقراطية في أن تعشِّش في أجهز الدولة وتصبح حرباً على الشعب وتسيئ إلى الدولة، فتفقد القوانين روح العدالة ويضيع الحق وصاحبه.

هذه الدراسة المتواضعة أطرحها للنقاش والحوار بما سردته حول بعض المبادئ التي تناولت بها قواعد وقانون مجلس الدولة، بهدف تحديث وتطوير القوانين التي لم تعد توائم الحياة المعاصرة بكل جوانبها.

22/6/2005

جريدة  النور

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon