قلة ممارسة الحب وراء معظم الخلافات الزوجية

ما أكثر المشاكل الزوجية، ويمكن الآن أكثر من ذي قبل قد نتأمل ذلك المثل العامي القائل (ياما أبواب مقفلة، على بلاوى متلتلة) ولدى أول مشاجرة حقيقية أو معركة زوجية ساخنة قد يستغل الزوج سلطته وعصمته ويرمى يمين الطلاق وإذا كان مسيحيا يسعى إليه، والزوجة من ناحية أخرى قد تصرخ وهى تلكمه في صدره بقوة وهو يقبض على كتفيها (طلقني.. طلقني.. طلقني) على طريقة الأفلام العربية.
والمشهد المعروف أيضا هو أن يهجر الزوج زوجته في الفراش أو أن تمنع هي عنه (الواجب) أو تشرد إلى بيت أهلها، وقد ينفعل هو ويصرخ (على اليمين لو طلعت بره باب الشقة لتكوني طالق بالتلاتة).
وهكذا سلسلة من الأحداث والآلام من المشاجرات والعنف المنزلي والزوجي قد تكون المعارك الزوجية إن صح التعبير، والشجار المزمن بين شركاء العمر مجرد واجهة لأمور أخرى، بمعنى أن ما وراء الأكمة ما وراءها فقد يكون السبب أمر آخر غير الأمور المادية وتدخلات الأهل، وضغط العمل، ومذاكرة الأولاد والدروس الخصوصية، فنجد أن السبب الأهم وربما كان السبب الوحيد هو الإدعاء بأن العمل والبيت والأولاد لا يترك أي وقت لممارسة الجنس ذلك الذي يدفئ عش الزوجية ويبعث فيها بالحيوية، لكن أليس من الممكن أن يقوم الزوجان ببرنامج ما ينسقان فيه مع زوجين آخرين بأن يأخذا الأولاد يوم، أو يوم وليلة، ولو كان ممكنا نهاية الأسبوع فتمكن الزوجان من التمتع بعطلة قصيرة من آن لآخر حسبما تسمح الظروف، وعليهما أن يدركا أن مجرد التصريح بأن هذا شئ مستحيل يجعله مستحيلا قبل التفكير فيه ومن ثم ينعدم التخطيط له ولا ينفذ إن الزوجين الذين يرهقان أنفسهما ولا يتمكنان من المعاشرة بانتظام لن يفكرا في التخلص من هذا المأزق وسيستمران في الروتين، لكن إذا كسرا قاعدة ومأزق الدائرة المفرغة فسيجدان أن الجنس له فعل السحر وليس مجرد لحظات نشوة وتفريغ للطاقة لكن سيستغرقان أكثر على جسد كل منهما وسيمتلئان بالطاقة والانتعاش، وليس التعب على عكس ما يعتقد البعض، وإذا سأل كل زوج وكل زوجة متى احتضن زوجته وقبلها قبلة رائعة، ربما في المطبخ وربما في الصالة لدى عودتهما من زيارة متى أمسك بيدها ومتى غنى لها أغنية أم كلثوم (واحشنى وأنت قصاد عيني)، والنمط التقليدي للزوج الذي يعمل طوال اليوم، يعود للبيت منهكا، قد تكون الزوجة تعمل نصف أو ثلاثة أرباع يوم وقد تكون ست بيت، ولكنها تقضى الوقت في ترتيب البيت وتنظيفه ثم تهيئ الوجبة الرئيسية (في كثير من البيوت المصرية الآن تكون وجبة العشاء المبكر، وبعدها يبدأ الرجل في مراجعة أوراقه والتحضير لما سيقوم به في الغد، كما تنشغل الزوجة تماما مع الأولاد في المذاكرة، وقد يشترك معها الزوج وقد يلتزمان الصمت وإعلان حالة الطوارئ لوجود الأستاذ المدرس أو المدرسة في البيت. وبعد أن يخرج المدرس ويذهب الأولاد إلي أسرتهم، ينهار الزوجان علي مقعديهما أمام التليفزيون حتى يغلبهما النعاس ولا يحسان إلا بديك الصباح يوقظهما ليبدأ دورة الروتين من جديد.
ربما بدأ هو أن الزوجان حياتهما بشكل مختلف، ربما كانت الزوجة أكثر اهتماما بمظهرها وربما كان هو أكثر تعاونا وصدقا ربما وربما، لكن المؤكد أن كلاهما كان أقل انشغالا وأقل هما، ومن شبه المؤكد أنه في كثير من الأحيان تقل (الرفقة) إن لم تكن انعدمت بفعل الظروف، وبفعل فاعل يكمن كاللص في الذرة يتربص بهما و بالزمن، يتربص بالقدرة علي الاستمتاع بالحياة، بالأكل، بالجنس، بالزواج.
قد يكون من الصعب إسداء (النصح) بضرورة تنظيم الوقت وتفادي الانشغال الشديد، وضرورة تحقيق إشباع جنسي لكل من الزوجين رفيقين، أصحاب، لأن الصحبة و الرفقة تخلق الجو وتعدل المزاج وتهيئ الظروف لممارسة جنسية طبيعية فيها استمتاع وبعيدة عن الروتين وأداء الواجب، حتى لو كانا متعبين ومرهقين ويتخيلا أنهما لن يتمكنا من ذلك اللقاء السخي في الفراش، ولسوف يؤدي ذلك إلي مزيد من التفاهم و الانسجام و التعاون داخل البيت مما يشيع فيه دفئا و حيوية يحس بها الأولاد و تؤثر إيجابيا علي سلوكياتهم وعلي صحتهم النفسية. دخل علي زوجان ذات مرة في العيادة النفسية ابتسم أحدهما ابتسامة ثلجية، وقال الآخر نحن لم نتشاجر و لم نصرخ نحن زوجان مؤدبان، حينما أدركت أن ثمة (حاجة غلط) تكمن هناك وراء هذا (الأدب) المصطنع، وأن (طلاق الصمت) ربما كان هو التعبير الأصح لحالتهما، قلت لنفسي ربما اختزنا كالجمل كل ما لا يمكن قوله، ربما كتما في الصدور ما كان ضروريا البوح به ظنا منهما أن الخطأ هو التعبير عن مشاعر الغضب ولم يدركا أن الخطأ، كل الخطأ يكمن في تورم الصدر بكل الملاحظات، لأنه إما أن يتسبب في اكتئاب وحالة عامة من الوجوم، وإما فإنه سيسبب آلاما ومرضا مثل الدمل الذي لابد من فتحه وتصريف الصديد منه وغسله بالمطهر ودعكه بالملح ومن خلال جلسات (الإرشاد النفسي) و (العلاج الزواجي) تعلم الزوجان كيفية التعبير عن مشاعرهما السلبية باحترام، تعلما أن يمضيا حوالي نصف ساعة كل مساء يفرشان علي التربيزة كل الأوراق وكل الأخطاء دون خجل أو مواربة وبدون أن يحمل أي منهما للآخر أي عداوة أو كره أو أدني مشاعر سلبية كما عليهما أن يتمكنا من تذكر نواحي سلبية و إيجابية في شخصية كل منهما، وأن يتدر بأعلى تذكر لحظة اللقاء الأول لهما، المكان، الزمان، وماذا كانا يلبسان، وهكذا … في إحدى الجلسات صارحت الزوجة زوجها بغضبها منه عندما يترك ملابسه وجواربه ملقاة في كل أنحاء غرفة نومها دون مراعاة أنها تقوم بالترتيب كل يوم وأنه لا يراعي مشاعرها وبدلا من أن يبرز الزوج تصرفاته كما كان يفعل في السابق سأل زوجته عما إذا كانت ستهدأ ولن تغضب إذا راعي أمر ترتيب ملابسه في المستقبل. عندها ردت الزوجة بأنها لن تغضب فحسب لكنها ستحس بأنه فعلا يحبها ويهتم بها، عندئذ قال الزوج بسرعة (سأرتب ملابسي كل يوم لا لشيء، إلا لأنني - فعلا أحبك ولا أرضي بزعلك، قال ذلك وهو ينحني ممسكا بيدها مقبلا إياها. هنا قام الزوجان بالواجب سويا وعالجا الغضب و أسبابه بشكل قوي علاقتهما و يوطدها الخصام الزوجي أو الصمت داخل العش الزوجي، والطلاق العاطفي كلها مترادفات لعلاقة متوترة تهدد العلاقة الزوجية في أساسها ومن ثم وجب تحديد التعامل معها عن طريق تحديد موضوع واحد دون اجترار الماضي أو النبش في كل حكاياته كما وجب حسم الخصام بأسرع ما يمكن، كما لا يجب التشاجر في الأماكن العامة وعدم اللجوء إلي العنف اليدوي، كما لا يجب ترك المكان الذي بدأت فيه المعركة الزوجية دون الوصول إلي حل، لا يجب علي أي من الزوجين التهديد بالانفصال أو الطلاق أو طلبه كحل ساعة الغضب.
عامة يقولون أن نوبات الطلاق و الفتور العاطفي و الخصام الزوجي شائعة جدا و أنها كالملح للطعام بجانب كل هذا قد تطفو أمور أخري علي السطح، أمور أكثر حساسية، من ضمن تلك الأمور إحساس الزوج ومعفته بأن زوجته تتظاهر بالوصول إلي قمة النشوة أو (الرعشة) و الزوج الذي يدرك ذلك، لا يدري لماذا تفعل زوجته ذلك ؟ هناك تصور عام لدي الناس أن الزوجات يزورن إحساسهم الجنسي ويمثلن برعشة الجماع رغبة منهن في ألا يعرف أزواجهن أنهن لا يستمتعن بالممارسة الجنسية معهم، في الحقيقة أن نساء كثيرات يلجأن إلي تلك الحيلة لنفس السبب بمعني أن الرجل يحب صعوبة في إمتاع زوجته ومن ثم تقرب الزوجة المسافة بالتظاهر المبكر حتى تريحه نفسيا وتزيح من علي كاهله عبء المسؤولية.
مما لا شك فيه أن العصر الذي يعيش فيه ملئ بالضغوط الحياتية، ومن ثم يتحول الجنس الطبيعي بين الزوجين إلي (جنس عند الطلب) لذلك يتحول الزوج والزوجة إلي ممثلين يؤدون أدوارا، ومن هنا تأتي الرعشة الزائفة في حين أن الرجل بطبيعته لا يتمكن من زيف مشاعره لأنها تظهر لحظة القذف فكثيرا من النساء باستثناء هؤلاء (الهوانم) مرهقات، مشتتات الفكر، منهكات ومتعبات نفسيا، ويختصرن الطريقة بتمثيل رعشة جنسية نظرا لأنهن أيضا - بجانب تعبهن - لم يتلقين الإثارة الجنسية الكافية، ومن هنا إذا أحبها الرجل بأن زوجته تمثل الوصول إلي ذروة المتعة فعلية أن يجالسها ويكلمها ويلمسها دون أي ضغط للقاء جنسي إلي أن تأتي اللحظة المناسبة والمهيأة التي يتم فيها اللقاء علي مراحل تصل فيها المرأة إلي ذروة المتعة دون تمثيل.
عرض آخر من أعراض الخلاف الزوجي هو أن تبالغ الزوجة في ارتباطها وتعلقها بزوجها، ففي حالة زوجة أحبت زوجها فترة الخطوبة و أعجبت بنجاحه العملي وذكائه الاجتماعي، لكنها بعد الزواج أصبحت تعتمد عليه في كل شئ تقريبا إلي درجة وصلت إلي الاتصال به تليفونيا في العمل لتسأله عن أشياء بسيطة في البيت، في البداية أحس الزوج بالاهتمام، بالمسؤولية ولذة رعاية زوجته لكنه ومع مرور الوقت أحس بالضيق و الاختناق ومن ثم أحست الزوجة أنها غير مرغوبة وبدأت تقلق أن الزوجة في تلك الحالة غالبا ما تعاني من الشعور بعدم الأمان وبعدم الثقة في نفسها، الحل هنا أن تعتمد المرأة علي نفسها، وأن تستقل وأن تعلم أن الزواج الصحي و الصحيح يكمن في ثنائية لا في أن يذوب أي منهما في الآخر، ربما خافت الزوجة من استقلالها ومن هذا العالم الواسع الذي ستخوضه بمفردها لكنها ستجد مع مرور الوقت أنها قادرة علي الحياة بمفردها بعض الوقت وقادرة علي التحرر من عبء أن تكون صداقات مع السيدات أخريات ستتناول القهوة معهن ولا مانع من تنزل وتدخل (كوفي شوب) لتأكل قطعة من الكعك وشاي الصباح. يؤدي كل ذلك إلي استقلاليتها ويؤدي أيضا إلي استقرار زوجها.
في حالات كثيرة، لا يخفي علي أحد، أن الزوج غالبا ما يجد نفسه في علاقة عاطفية خارج إطار الزواج، تعرف الزوجة، يطلب منها العفو لكنها تجد صعوبة في ذلك، في تلك اللحظات تحس الزوجة بالخيانة، هنا يجب علي الزوجة أن تدرك أن كل الخطأ ليس خطأها، فليس بإمكانها كبح جماح عاطفة زوجها تجاه (المرأة الأخرى). هنا يجب عمل عملية إعادة تقسيم شاملة للزوج من أجل إنقاذ الزواج من براشن الفشل و الانهيار هنا يجب علي الزوجين أن يتغيرا إيجابيا وأن يحددا السلبيات ويعملان علي إزالتهما وهنا يتوجب النقد البناء عوضا عن تبادل الاتهامات، كما يجب تبني مبدأ (هنا و الآن) بمعني قصر النقاش علي الحاضر، كما يجب تعلم الصفح عند المقدرة.
الموضوع الأخير في خلافات الأزواج يكاد يتحدد في (رتابة الحياة الزوجية) عادة بعد مضي 5 - 7 سنوات تقريبا و أحيانا ما يتأخر إنجاب الأطفال ونجد زوجين في سن متوسطة ولديهم أطفالا مختلفي الأعمار عليهما أن يربوهم ويعلموهم وهذا في حد ذاته يتطلب جهدا كبيرا. هنا يجب كسر الرتابة ببث روح الدعابة و المرح و الدلال و أخذ الأمور ببساطة وهذا لن يؤثر علي جدية و شخصية الطرفين لكنه سيعمق العلاقة بين أفراد الأسرة جميعا.

المرأة والاكتئاب
هل فعلا المرأة اكثر تعرضا للاكتئاب من الرجل ؟ أم أنها أكثر جرأة فى البوح بمزاجها المضطرب والذهاب إلى العيادات النفسية طلبا للمشورة والعلاج، وان الرجل يخجل ويتردد فى الذهاب ومن ثم فإن الاحصاءات تدل على أن نسبة المكتئبات ضعف نسبة المكتئبين من الرجال ؟ لكن تدل الدراسات المتعددة على أن المرأة – فعلا – أكثر عرضة واكثر أصابة بالاكتئاب كمرض وكعرض وكتجربة حياتية سلبية.
يقول أحد أساتذة الطب الفرنسيين والذى فصص بريده الألكترونى من خلال صفحته على الانترنت للرد على شكاوى قراءه عبر شاشة الانترنت. يقول أن حوالى ثلثى من يكتبون إليه إليكترونيا نساء ومراهقات يشكون من الاكتئاب، كذلك يعانون من اضطرابات تناول الطعام (الشره العصبى – فقدان الشهية العصبى أو هوس السمنة وهوس النحافة). لكن ترى ما هو السبب الكامن وراء تلك الظاهرة ؟ اكتئاب النساء ؟ إن صح التعبير، الإجابة صعبة للغاية، لا لشىء، إلا لأن الاكتئاب بشكل عام اضطراب وجدانى غامض ومازال عصى الفهم حتى على علماء وأطباء وباحثى النفس فى كافة أنحاء العالم، ولا يعرف أحد أسبابه بشكل قاطع سواء كان اكتئابا رجاليا أم حريميا.
بمعنى أن الاكتئاب، اضطراب المزاج. اضطراب شخصى جدا وتعب نفسى راق (شيك) يصيب الحساسين والمراهقين والرقيقى المشاعر، وبالتالى فإن كل اكتئاب يختلف باختلاف المكتئب بما لا يدع مجالا للشك، كل حالة اكتئاب تعد حالة إنسانية متفردة وقائمة بذاتها، فاكتئاب شخصى ما قد يكون كل مسبباته كيميائية، بينما اكتئاب آخر نتيجة ضغوط حياتية متزايدة، وثالث يصيبه الاكتئاب نتيجة تضافر عوامل بيئية وكيميائية سويا.
وعالم الطب النفسى ملىء بالنظريات التى تحاول أن تفسر ازدياد نسبة الاكتئاب عند المرأة، وليس المجال هنا لرصد تلك النظرية أو لدعمها ولا حتى لتبنى إحداها على أنها المفسرة لكل شئ.
لكن مما لا شك فيه أن المرأة عامة بطبيعتها الخاصة جدا كانثى وكجنس لطيف، عليها أن تتعامل مع أخطار كثيرة، جسمانية ووجدانية عاطفية، اخطار أكبر فى حجمها من تلك التى يتعرض لها الرجل، والسؤال الآن كيف تلعب تلك الأخطار دورا فى اكتئاب المرأة، وعلينا أن ندرك أهمية معرفة تلك الأخطار والتحسب لها، بالضبط مثلما نتدارك ونتحسب للأخطار المتعلقة بأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم مثلا.

المرأة والبيولوجيا:
تتعرض المرأة لتغيرات بيولوجية كثيرة فى حياتها مثل بدء الدورة الشهرية، الحمل، الولادة، ما بعد الولادة، فترة انقطاع الطمث (التى تسمى خطأ سن اليأس)، كما أنها تمر بمرحلة تغيرات وتبدلات هرمونية كثيرة كل شهر، وعلى الرغم من أن البحث العلمى لم يثبت بعد أن التغيرات الهرمونية تلعب دورا فى الإصابة بالاكتئاب إلا أن الأمر يبدو كذلك.
البنت وهى تدلف إلى مرحلة البلوغ معرضة للاكتئاب مرتين ضعف الولد ويعتقد علميا أن الأمر راجع إلى التغيرات الهرمونية المرتبطة ببدء الدورة الشهرية، والنظرية التى تعارض ذلك تؤكد على أن البنت فى تلك المرحلة تتعرض لضغوط وصراعات أكثر من الولد – تحديدا فى مجتمعاتنا الشرقية وكل ذلك يتسبب فى الاكتئاب.
أما بالنسبة للمرأة الحامل وصورتها لدى البعض من أنها انفعالية وسريعة البكاء إلا أن الاكتئاب أثناء فترة الحمل يعد أمرا نادرا حتى فى أولئك النسوة اللاتى أصبن بالاكتئاب قبل أن يحملن، أما الاكتئاب ما بعد الولادة وهو مختلف عن ذلك الحزن والوجوم الذى يغلف أول يومين بعد الولادة فهو يصيب على الأقل امرأة من كل أربعة نساء فى أول تجربة حمل وولادة. أما عن فترة انقطاع الطمث نهائيا (سن اليأس) وعلى عكس ما يعتقد البعض فإن النساء أقل عرضة للإصابة بالاكتئاب من الرجال فى تلك السن.
كما أن هناك سؤالا هاما يتعلق بتلك الفترة قبل الدورة والتى يزيد فيها التوتر والضغط النفسى لدى نساء كثيرات السؤال : هل توتر ما قبل الدورة الشهرية يترك المرأة أكثر عرضة للاكتئاب أم لا ؟ مازالت الإجابة محيرة وغير مستقرة وتعود الرجال وخاصة فى المجتمعات الغربية إذا ما تعاملوا مع امرأة عصبية أن يقولوا لها : يبدو أنك تنتظرين دورتك الشهرية، أليس كذلك ؟ وهنا فإن تحديد أسباب اكتئاب المرأة بدقة يعد امرا يشبه المعجزة، لكن من المؤكد أن توتر ما قبل الدورة الشهرية والاكتئاب يتشاركان فى صفات وأعراض عدة منها – التهيج، تغيرات فى الشهية للطعام، فقدان الطاقة، نوبات من البكاء.
وهنا يجب التفريق بين التوتر الشهرى العارض وبين حالة الاكتئاب الإكلينيكية المستمرة وهنا يجب على المرأة أن تستشير طبيبا نفسيا للتأكد من حالتها وتشخيصها. المرأة والبنت أكثر تعرضا من الرجل للاغتصاب والانتهاك الجسدى والتحرش الجنسى وكلها أسباب قوية للإصابة بالاكتئاب وهنا فإن انخفاض الاعتبار الذاتى، والشعور باليأس، ولوم النفس تعد أعراضا لقسوة الرجل الجنسية للمرأة واعتدائه النفسى والجسدى عليها. إن المرأة أو البنت الضحية للانتهاك والضرر النفسى والجسدى أكثر عرضه من غيرها للاكتئاب.
وعلى الرغم من أن المرأة قد أصبحت وزيرة وعالمة وتبوأت مناصب شتى إلا أن النمط الاجنماعى الذى تعودنا عليه فى المجتمعات الذكورية، وكذلك فى بعض دول الغرب، يجعل المرأة تحس بأنها أقل من الرجل شأنا وأنها أحيانا بلا قيمة، وأن دورها قد أنتهى، وأنها وعاء وخادمة ومهمشة ومسكينة ومغلوبة على أمرها، تربى الأولاد، تغسل، تكنس، تمسح، تطبخ، تعمل، تشترى، تبيع، (هذا باستثناء حالات الهوانم، نسوة المجتمع المخملى)، كل هذا يشكل ضغوطا لا تنتهى على المرأة ويؤدى إلى اكتئابها. المصريون والاكتئاب (الرابع في قائمة الأمراض التي تهدد البشرية) على (النِت) وتحت عنوان (المكتئبون العرب) قيل ـ والعهدة على الراوي أن في مصر (16 مليون) مواطن مصابون بمرض "الاكتئاب".
بالطبع لابد وأن نتوقف عند تعريف مرض الاكتئاب، لأنه يختلف عن (الشعور) بالاكتئاب، أو الانزعاج والإحساس (بالقرف).
إذن فهو مرض الاكتئاب الذي من علاماته إذا ما كان جسيماً: شعور بالإكتئاب معظم الوقت، كل يوم تقريباً، الإحساس بالخواء الداخلي أو أن يلاحظ الآخرون على المكتئب أنه متجهم، منقبض، وقد تملأ الدموع عينيه كما تنحسر كل اهتماماته وسبل متعته وتقل كل نشاطاته اليومية، ينخفض وزنه أو يزيد مع عدم الرغبة في الأكل أو النهم الشديد، أرق، إحساس بالتعب دون بذل أي مجهود، تهيج وتوتر وعصبية وغيرها من أعراض شتى مؤلمة وقاسية قد تدفع بصاحبها إلى التفكير في الانتحار أو على الأقل (تمني الموت).
عودة إلى الرقم المذكور (16 مليون مصري مكتئب) أعلاه كيف تم التعرف عليه، هل تم فحص الناس من إسكندرية لأسوان وطبقاً لمواصفات الاكتئاب العالمية العلمية لتحديد الأمر؟! ننتقل من هذا إلى تصريح لمنظمة الصحة العالمية (أخبار اليوم) ـ (7 أغسطس 2004 ـ ص 29 ـ هند فتحي). حيث تقر المنظمة في أحدث تقرير لها إن الاكتئاب قد أصبح يمثل أزمة صحية عالمية، حيث يعاني منه حالياً (150 مليون) شخص على مستوى العالم ليصبح (الرابع) في قائمة الأمراض التي تهدد البشرية، وقد يحتل المرتبة الثانية بعد مرض القلب بحلول عام 2020، وفي دول العالم الثالث يصيب الاكتئاب (20%) من السكان وفي الدول المتقدمة (10%) (هذا في لاشك فيه لعلاقة الفقر والقهر بالاضطربات النفسية عامة وبالاكتئاب خاصة).
وللاكتئاب وجوه أخرى أهمها (الجسدنة) أي عندما تكتئب النفس يمرض الجسد، فنجد المريض يقول (آه يا قلبي) يشكو بألم في الصدر وهو سليم عضوياً، يقوم من النوم متعباً وكأنه (مضروب علقة)، أو أن يشكو من سقوط في الشعر أو يصاب بالثعلبة، وقد ينسى ويظن أنه قد أصيب بألزهايمر في حين أن المسألة هي ضعف التركيز فجأة. وكان العلماء يعتقدون أنه لا اكتئاب في الأدغال والغابات والقرى والنجوع لكن أحدهم قال بخبث (افتح عيادة نفسية وأعلن عن مكانها ولسوف ترى).
عودة إلى (اكتئاب المصريين)، فهناك من يرى أننا بطبيعتنا شعب مرح (ابن نكتة). ويميل إلى التهكم والسخرية، وهذا صحيح لكننا أيضاً شعب يميل إلى الحزن والنكد وبعمل من الحبّة قبّة أي يكبر ويهول توافه الأمور ويجزع من كبائرها، وأحياناً ما يستعذب الألم ويتمادى فيه لهذا فإن اكتئابه يكون عميقاً وكأنه (التكوين العكسي) للمرح والفرح والابتهاج، لم يعد المصري تدمع عيناه، لكنه أصبح مكشراً وعابساًَ وبائساً لا يهتم بمظهره ولا يحلق ذقنه أو يسوي شعره (هكذا أصبحنا نرى كثيراً من الناس في المكاتب والشوارع والمواصلات العامة)، وكأن المصري رغم الفقر والإجهاد والفساد يبتسم، لكنها ابتسامة الموناليزا ابتسامة بألف مغزى ومعنى، (وربما بدون معنى على الإطلاق). ابتسامة باهته شاحبة كالوجه المتعب المكفهر، ابتسامة (المكتئب الباسم) ـ بالفعل ـ هناك اضطراب نفسي يصيب الناس فيضحكون، كرد فعل للمصيبة، يبتسمون للمأساة وكأنهم يتحايلون على البؤس واليأس بالابتسامة الزائفة أو الحقيقية سخرية مما يحدث لهم، بعد ما بشروا بأن الرخاء قادم بعد انتهاء الحروب وأن رغد العيش في انتظارهم، فلم يجدوا سوى تدني الخدمات وانهيار العمارات انتشار العشوائيات وترهل الأجهزة الحكومية، لم يجدوا سوى الكذب المتواصل والتناقض المباشر والشيخوخة التي أصابت مفاصل الأجهزة الحكومية بلا استثناء فما كان إلاّ بسمة الموناليزا، بسمة بدون أمل. فعلى الرغم من قسوة نكسة (67) إلاّ أن سيل النكت كان عارماً لكنه أيضاً كان بحجم وقسوة وألم الهزيمة، غير أن الأمور اتخذت مساراً آخر فاتجه الناس إلى الهجرة إلى دول النفط وإلى أوروبا وأمريكا، بل وإلى جنوب أفريقيا وأستراليا.. إلى كل بقاع الأرض، وسادت الناس قيم وعادات جديدة، تغيرت أخلاق المصريين وتمركزت حول المادة والثراء بأي شكل وبأقل مجهود، ثم حدثت فوضى توظيف الأموال وضاعت على الملايين مليارات، مما أدى إلى اكتئاب عام وشديد وصل في بعض الحالات إلى الانهيار التام بل والانتحار.
ما لا يعرفه الناس أن التغيرات الاجتماعية والحياتية المحيطة بالإنسان والتي تؤثر عليه سلباً مثل فقدان الوظيفة، البطالة، الطلاق، عدم القدرة على الزواج، العوز والحاجة، المرض العضوي، إدمان أحد أفراد الأسرة، وفاة عزيز، تحمل المسئولية فجأة، الزحام، عدم الإشباع الوظيفي، التعرض لصدمات متتالية، العيش تحت وطأة ظروف صعبة، خلافات مع أهل شريك الحياة، القضايا والمحاكم، الإحساس بعدم الأمان.... كل تلك العوامل وغيرها تؤثر على كيمياء المخ وعلى لدونته فتسلبها ما ينظمها ويوجهها ويقرر ثبات المزاج والنفس، فنجد اضطراباً في الكيمياء العصبية في مواد مثل(السيروتونين ـ الدوبامين ـ النورأدرينالين) وغيرهما كما أن لدونة المخ تلك (NEUROPLASTICITY)، تتوقف وتتصلب فتصيب المصاب بكل الآلام النفسية وأعراض الجزع والاكتئاب بمعنى أن حالة الاكتئاب (التفاعلي) هنا تصبح مساوية لحالة الاكتئاب (الداخلي) الذي يصيب الإنسان دون سبب على الإطلاق: (رجل في وظيفة مرموقة، يركب سيارة مرسيدس عيون، يسير على الطريق العام غير قادر على الفرحة، غير متمكن من الابتسام، مخنوق وأيضاً غير قادر على البكاء يطالع من خلف نظارته الشمسية الأنيقة وزجاج سيارته الفيميه مجموعة من البنات والأولاد على ظهر عربية نصف نقل يصفقون ويضحكون كما في أغنية نانسي عجرم (آه ونص) يتساءل (من أين أتوا بكل هذه الفرحة، وهم محروقون في الشمس، مكدودون، وعلى قَدّ حالهم؟!)... من هنا تتضح مسألة إلغاء منطق الاكتئاب كرد فعل والاكتئاب (الجواني) ويتأكد تشخيض الاكتئاب كمرض فحسب (DEPRESSIVE ILLNESS) نأخذ مثلاً برجل متزوج ولديه من الأطفال ثلاثة يقترب من سن الأربعين بعمل في فندق (5 نجوم) ودخله أفضل من كثيرين في مستواه، يعيش مع زوجته وأولاده في حي شعبي، يتردد على العيادة النفسية منذ حوالي عشر سنوات، لديه طموح في تعلم اللغة الإنجليزية والكمبيوتر لكن لم يتمكن من تحقيق حلمه. أقصى أمنياته أن يصبح (مشرفاً Supervisor) صَرَخ مرة واحدة في إحدى الجلسات قائلاً (أنا برميل زبالة)، يهمس إلى نفسه كثيراً (أنت مزيف، عش بحجمك الحقيقي)، يسأل نفسه (كيف أغير جلدي من غير أن أجلد ذاتي)، (أنا نتاج تربية خاطئة، لم أرث شيئاً طيباً من أهلي ولم أتعلم منهم أي أمر إيجابي) (أستيقظ من نومي متأخراً أذهب إلى الشغل بالعافية... وا شيء يسعدني). حاول أن ينهل من ينابيع الثقافة فأخطأ المصدر وأخذ بالقشور فأصابه الإحباط وقال في لحظة غضب (... يا دي المصيبة.. أنا طلعت مش مثقف)، (الاكتئاب ده مالوش لون ولا ملّة، إحساس صعب قوي، مؤلم، يدخل في ثناياك، يعيش معاه ويعشش فيك، يهرب إلى النوم ولا يعرف كيف يعبر عن مشاعره، ويتساءل عما يعتريه هل هو خوف أم ضعف، يضطر للتنازل عن حقوقه طوعاَ. مسجون داخل ذاته).
هذه هي صورة، الصورة الأخرى لامرأة في العقد الثالث من عمرها تزوجت وهي بعد (22 سنة) من رجل جاءه عمل في بلاد النفط، وافق الأب المتزمت فجأة (ليس طمعاً لكن رغبة واعتقاداً في أن ابنته ستعيش أحسن عيشة، تمنت ألا يتم الزواج، فقدت أختها في حادث سيارة وهي بعد شابة، لم تحب زوجها، ولم يكن هو الذي تبحث عنه، كانت هناك فجوة بينهما، قضت من عمرها (12 سنة)، ولم يتمكنا من ادخار شئ اشتاقت للوطن مصر بحرقة، أحست بالاختناق وبعدم الأمان، لا تتمكن من الاستمتاع بأي شيء.. لم تعمل ولم تنجب ولم تتطور، (إذا طلبت الانفصال من سيتزوجها وهي في تلك السن)، (إذا كان البنات اللاتي في العشرينات مش لاقيين عرسان...) انهمرت الدموع من مآقيها غزيرة واسترسلت في نوبة اكتئاب فظيعة.
نموذجان لرجل وامرأة من مصر في زمن العولمة يعكسان أموراً واضحة حول تحقيق الذات، الطموح والإحباط، التوقع والواقع، الألم النفسي في حالة المرأة هناك، فقدان الأخت أحبتها بجنون، زوج بينها وبينه فجوة، لا مدخرات ولا أولاد وحنين جارف إلى الوطن وفي حالة الرجل أمور مشابهة.. إذن فإن التغيرات الاقتصادية السياسية والاجتماعية بما لا يدعو مجالاً للشك ـ قد أثرت في عموم المصريين وتسببت في اكتئابهم سواء كان اكتئاباً مرضياً بحق أو كان مجرد شعور عابر بالضيق والرغبة في الهروب.
أخطر ما في الموضوع هو ما صرحت به مريضة بالاكتئاب عمرها (50 سنة) هي أنها بعد ما شفت وزال عنها شبح الاكتئاب (افتقدته)، (وهي تعيش لوحدها، لم تتزوج، نعم 3 خطوبات وكتب كتاب وكله اتفسخ)، (لما باروح المطبخ أعمل لنفسي شاي بارجع لأوضتي بسرعة عشان حبيبي الاكتئاب بيبقى لوحده... تصوروا لما بيغيب عني بيوحشني، لما باضحك باستغرب نفسي يا ترى أنا باضحك ليه؟!)... وهكذا من الممكن بعد طول العشرة يصبح الاكتئاب ونيساً وهنا ممكن الخطر أن يستغرب المكتئب الفرحة ويتعود على الاكتئاب كما يتعود السجين على سجنه والنزيل على مستشفاه.
من الجدير بالذكر أيضاً أن شكل الاكتئاب قد تغير وتبدلت ملامحه على وجوه المصريين خلال الثلاثين سنة الماضية، ولم يعد حكراً على المرضى المصابين به (بيولوجياً) أو لعوامل وراثية بحته، ولم يعد ذلك الاضطراب الأنيق الذي يجرح المزاج ويصاب به المرفهون والفنانون المثقفون والذين يملكون أدوات التعبير، فلفظ (الاكتئاب) والتعبير عنه لم يكن متداولاً بين (العامة) أو في الريف والمناطق الشعبية.. صار لفظ الاكتئاب عادياً يمضغه الناس كلقمة العيش ولم يعد استبدال وصف حالة الاكتئاب باضطرابات أخرى منتشراً كما سبق، كما لم يعد هناك خجل منه فلقد نزعت منه وعنه (الحساسية) ولم يعد صِنواً للجنون بل أصبح البعض يتفاخر بأنه مكتئب.
أمام كل هذا وبعد كل هذا قد تبدو الصورة قاتمة، ربما لأن المصري تعود أن يستثمر همّه وأن يستعذب غمّه، ولأنه أيضاً إذا أصابه مرض عضوي أو ألمت ضائقة استسلم واسودّت الدنيا في وجهه ولا يرى سوى النهاية المؤلمة؛ فينتابه اليأس ويأخذ منه مأخذاً وغالباً ما يتوقع وينتظر أسوء السيناريوهات لأي مشكلة عادية هنا علينا بترميم وتقوية الأنا، بالنهوض من العثرة واسترجاع الحكمة القديمة لنيتشة (الضربة التي لا تقتلني تقويني)، لنا أن نرى في تجربة الاكتئاب فائدة فهي تعلمنا معنى السعادة، وتوضح لنا جمال الدنيا تقوي دفاعاتنا وتدربنا على مواجهة ما قد يأتي.
لنا أن نبحث عن مكان نرتاده لنستنشق الهواء الطلق (للأسف أن القاهرة قد انعدمت فيها حدائق الميادين العامة التي كان يرتادها الناس للنزهة ومحاولة الفرحة حتى ذلك الميدان الشهير(ميدان التحرير)؟؟ استبدلت الأماكن بالعمارات والبنايات والأكشاك.
لنا أن نرسخ مفهوم عطلة نهاية الأسبوع (الويك إند) وأن ننطلق ونبحث عن كل ما يمكن أن يمتعنا دون مغالاة.
أطباء النفس وعلمائها ومنظمة الصحة العالمية رأوا أن (البوح) هو أهم علاج للإكتئاب المرضي بمعنى آخر (الفضفضة)، وهي ليست الدردشة مع جار أو صديق أو قريب لكنه ذلك الحوار المهم مع معالج ومحلل نفسي بمنطق الأشياء ويعلمك كيف تصطاد الأفكار السوداوية وكيف تقهرها ـ العلاج بالكلام والتداعي الحرّ والدخول إلى العقل الباطن وفك طلاسمه، فما يكتم عادة يُقال، وما يخجل منه يصرح به دون مواربة أو خزي، وعلى الرغم من أن تلك العمليات الجوارية العلاجية قد لا تعيد ما فات، لكنها ترمم الذات وتقوي النفس وتشحذ العزيمة، (ومن ثمّ فإن العلاج النفسي بدون دواء يعمل ـ فعلاً ـ على تغيير الكيمياء العصبية إلى الأفضل، ويعيد إليها توازنها واستقرارها فيؤهل المريض للاستغناء عن الدواء المضاد للاكتئاب في حالة ضرورة وصفه واستخدامه، تؤكد على ذلك د. هيلين ماي بيرج من كلية طب إيموري بأطلنطا أن الأشعة المقطعية على مخ المصابين بالإكتئاب المعالجين حوارياً ودوائياً قد أثبتت أن الفضفضة فقط في حد ذاتها تحدث تغييرات معينة في بعض مناطق المخ لا تصل إليها الأدوية المعروفة بمضادات الاكتئاب، وفي دراسة أخرى ثبت أن (60%) من مرضى الاكتئاب لا يتناول أدويتهم بانتظام أولا يتناولونها إطلاقاً لكنهم يتحسنون بالنشاطات المبتهجة وبسماع الكلمة الحسنة، بتخفيف حدة الشجارات الزوجية والعائلية وتقليل ضغوط العمل. أما آخر تلك الدراسات فهي التي أجريت في أوغندا حيث ظهر أن الفضفضة أدت إلى تراجع الاكتئاب من (86%) قبل العلاج غير الدوائي إلى (6.5%) بعده. هنا يبرز مفهوم (الصحة النفسية) المختلقة حتماً عن مفهوم (الصحة العامة)، لأن الصحة النفسية لا تعني الخلو من الأمراض أو الأعراض، إنها التفكير الإيجابي والقدرة على تخطي الأزمات وإقامة علاقات صحية وصحيحة مع الآخرين، أي النهوض من العثرات؟، قوة الأنا والقدرة على الاستمتاع، ويندرج تحت لوائها مفهوم (اللياقة النفسية) على غرار (اللياقة البدنية) وتعتمد على المرونة والصلابة والثراء النفسي. ولقد أثبتت الدراسات أن اللياقة النفسية في مصر تقل كثيراً عن اللياقة البدنية، فلقد أفاد القومسيون الطبي في معهد الطيران المدني أن نسبه كبيرة من الذين يجتازون اختبارات اللياقة الطبية، يتم استبعادهم بسبب عدم لياقتهم نفسياً (أخبار اليوم 29/12/2004)، وفي (2001) تلقت وزارة الصحة المصرية عدداً من المساعدات الأجنبية للنهوض بالصحة النفسية ورفع اللياقة المعنوية للمواطن المصري!! وأهم تلك المساعدات جاءت من فنلندا التي خصصت عشرة ملايين جنيه لتدريب القائمين على شئون الصحة النفسية في مصر. وتم عقد اتفاقية بين مصر وفنلندا، وقعها وزير الصحة السابق إسماعيل سلام ويتساءل صلاح قبضايا كيف يتم إنفاق تلك الأموال خاصة أن العلاج ورفع اللياقة النفسية للمواطن المصري لا يتم بالضرورة داخل المصحات والمستشفيات وسائر الجهات التابعة لوزراة الصحة.
لأن مفهوم اللياقة والصحة النفسية مفهوم وقائي اجتماعي بيئي يجب أن تشترك فيه مؤسسات المجتمع كلها، فهناك الدورات وورش العمل والجماعات والجمعيات وهذا لا يمكن أن يتم بسهولة نظراً لانخفاض الوعي وانتشار الأمية الأبجدية والثقافية.
إن دراسة متأنية لما تنشره الصحف، ويصدر عن الهيئة العامة للكتاب ولنشاطات وزارتي الثقافة والإعلام ودور التليفزيون تحديداً ستلقي بالضوء على أمور لا يمكن وصفها إلاّ بأنها فكاهة أو متعالية جداً. إن الاكتئاب لدى المصريين مرتبط بأمور السياسة والاقتصاد والصحة والنظام وغيرها ومرتبط أيضاً بالقدرة على الترفيه والترويح وتدني وارتقاء الذوق العام والخاص، بالجمال والقبح، بالجو العام، بالبيروقراطية وانتهاكاتها، وبعلاقة المصري بالمصري في الشارع وفي البيت وفي العمل لكي نقاوم سوياً أحاسيس الغضب المعلن والمكبوت، العداء والشعور بالحسد والرغبة في إيذاء الآخر وحتى لا نسقط في بئر النرجسية المظلم.

2/12/2004

موقع د. خليل فاضل

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon