سأهمس في مسامعكم شيئا هاما, وهو أن اليوم عيد الحب, أو ما يسمى عيد القديس فالانتاين, وأرجو ألا تخبروا أحدا به, وخاصة الظلاميين المكفّرين الأشداء, لأن "صوفتنا " حمرا عندهم من غير فالانتاين أو "ضرّاب السخن", على ما يقوله أحبتنا في الشام. ويوم الفالانتاين هذا, مع أيام ومناسبات أخريات, أحد تجليات العولمة التي تتقدم باطراد, فحتى على صعيد الحب والعلاقات والأعياد تتعولم الأشياء, وتكبر دائرة التلاقي والتعارف والوئام, التي سينضوي تحتها الجميع, وحتما, في يوم من الأيام, بما فيهم العربان الرعيان, السارحين والهائمين على وجوههم في البراري والفيافي والوديان. وهذه الأعياد من مظاهر العولمة والذوبان الكبرى التي تجتاح الآفاق, وتشهدها البشرية أكثر من أي وقت كان. وكثير من الناس, والأحبة والعشاق أصبحوا يترقبون هذا اليوم, وفي أكثر من مكان, فيما يعتبر مناسبة كبرى ويوما عظيما عند الغربيين بشكل عام. ومن منكم لم يسمع بهذا التقليد فهو مايزال, وعذرا, نائما مع أصدقائه الشاخرين في كهوف البدائية والزمان. فتصوّرا أن قصة عيد الحب, التي بدأت في روما بنصف قرن تقريبا قبل الميلاد, قد وصلت أخيرا إلى مرابع الرعيان في الألفية الثالثة, وتخيلوا السرعة القصوى المدهشة لهذا الانتقال الذي لم يتخيله مايكل شوماخر, قاهر الراليات, في يوم من الأيام.
وتقول القصة -قصة القديس فالانتاين- أن الإمبراطور كلاوديوس الثاني, كأصحابه القراقوشيين المعاصرين الأبطال, المهزومين في ميادين القتال, والذين تكحلون العيون يوميا بطلتهم البهية الشهية في قنوات الإستهبال, أصدر قرارا بمنع الزواج على الجنود، لأنه كان يعتقد, وتأملوا عبقريته, أن الزواج قد يضعف من عزيمة الجنود في ساح الوغى والقتال! وكان هناك راهب مسيحي يدعى فالنتاين تصدى بإنسانية وجرأة وحب لهذا القرار، واستمر بإبرام عقود الزواج بين المحبين والعشاقَ سرا, وبعيدا عن أعين العسس, والجندرما, والمتلصصين, والمخابرات, ومتحديا بذلك أمر ذاك القراقوشي التالف الدماغ.
فلما افتضح أمرُه حُكم عليه بالإعدام. غير أن الإمبراطور عرض عليه أن يعفوَ عنه شرط تخليه عن المسيحية, وبأن يعبُد آلهة الرومان, وكانت المسيحية وقتذاك في بداية عهدها، وبأن يكون لديه من المقربين والمحظيين والأتباع والأمناء ويجعله صهراً له، إلا أنه رفض هذا العرض السلطوي وآثر المسيحية، فما كان من كلاوديوس البطران إلا أن أُعدمه يوم 14 فبراير عام 270 ميلادي ليلةَ 15 فبراير وكان عيدا عند الرومان. ولكم أن تثمنوا قيمة الرجلين الآن في التاريخ والميزان, وكيف تتذكر الناس فالانتاين, وكيف تنظر بامتعاض وحنق وازدراء إلى ذلك القراقوشي المتسلط الجبان, فتبصروا وتفكروا يا أولي الألباب.
ومنذ ذلك الحين أطلق عليه لقب القديس فالانتاين. وبعدما انتشرت المسيحية في أوربا أصبح العيد يوم 14 فبراير، وسمي بعيد القديس فالنتاين، إحياءً لذكراه، لأنه فدى المسيحية والعشاق بروحه، وقام برعاية المحبين ومؤلفا لقلوب العذارى والفتيان. وطبقا للأسطورة أيضا, فإن فالانتاين هو أول من أرسل تحية الفالانتاين المعروفة بنفسه. فعندما كان في السجن أحب ابنة سجانه, التي عالجها وشفاها – بكراماته- من أحد الأمراض, وقبل موته كتب رسالة إلى محبوبته موقعا بتعبير From your Valentine, (من فالانتتين الذي تملكين) الذي ما يزال مستخدما حتى اليوم في بطاقات الحب في عيد الفالانتاين, ويذيّل بهذه الكلمات البسيطة المقتضبة كل العشاق تواقيهعم في البطاقات. وأصبح هذا القديس رمزا للحب والوفاء بين العشاق, وكثيرا ما يقوم المحب الولهان بتقديم وردة حمراء لمحبوبته في هذا اليوم. وأقدم وثيقة فالانتينية موجودة حتى الآن هي قصيدة كتبها تشارلز, دوق أورليانز, الذي كان مسجونا في برج لندن في عام 1415, ولا تزال معروضة في المتحف الإنكليزي في لندن حتى اليوم, ويتم في مثل هذا اليوم من كل عام تبادل بليون بطاقة بريدية في مختلف أنحاء العالم الغربي, وهذا الرقم يأتي مباشرة بعد بطاقات عيد الميلاد مما يدلل على أهمية الحب وتقديس العلاقات. فيما يتم يوميا تبادل بليون تهمة, وسبة, وشتيمة, وتكفير, وتخوين في "الغيتوهات" الظلماء الخارجة من التاريخ وكل الجغرافيات و"اللي بالكم منها", وليست بحاجة أبدا –وبحمد الله - إلى تعريف وبيان.
وحاولت جاهدا تلمس أو استكشاف أي يوم, أو ساعة, أو حتى لحظة فيها حب, ومرح, وسرور في دنيا الشقاق والتشرذم والإنشطار والبغضاء والعداوة والاقتتال, أو أي مشهد فيه ود وتلاق وتسامح وعناق ولقاء وحتى مجرد نظرات تتقابل ولو مرة واحدة في العمر والزمان, في الشارع, أو في المخادع والبرلمان. فالكل حاقد ومتجهم وكاره حردان, وكل شيء ممنوع ومحظر وحرام بفرمان مقدس من قصر السلطان, حتى المصافحات مجرمة لأنها تفسد الوضوء والتقوى و الإيمان, وتوقظ في النفوس الشياطين والنوازع والأهواء.فما بالك بالضمّ والقبلات, وحرارة اللقاءات, وبدعة الحب والكلام الفارغ عند هذا المراهق المكنى بفالانتاين؟ وكم تمنيت أن تحبنا وتتودد لنا وتصفح عنا هذه الشموليات, ولو لمدة يوم واحد, أو نصف ساعة في هذا الدهر القاهر الجبان؟ وتعتبرنا مع المراهقين والعشاق, وتقدم لنا حتى ولو باقة من الخس والفجل والبقدونس, و"كمشة" من الباذنجان, بدل البطاقات والورود الحمراء, لأنني أعلم أن الميزانيات لا تتحمل شراء حتى برعما من شقائق النعمان, الذي يملأ الأرض والسهول والوديان, في مثل هذه الأيام.
ومتى تنهي حالة الاستعداء الأبدي المستحكم مع هؤلاء الرعايا البؤساء. وتعلن انتهاء حالات الهجر والطلاق والفراق, وعودة الوفاق والوئام والالتحام, ونبذ القطيعة والمقاطعات, والمطاردات بين الشعوب والحكومات, والعاشقين والعاشقات, والأخوة الألداء, وبين العشائر والبطون والأفخاذ, والقبائل والطوائف, والفرق, والملل, والشيع, والنحل, والأحزاب والجماهير والشعارات, والمعارضين الملاعين الثرثارين والمخابرات, والأصوليات والعلمانيات, والمعصومين والخطائين الأشرار, وبين التلفزيون والمشاهدين والمشاهدات, والموظفين المرتشين والمراجعين المساكين المكوكيين والمراجعات , وبين رجال الشرطة وسائقي السرافيس والتاكسيات, وبين مدن الصفيح وأحزمة الفقر وقصور الشعب والفيللات, ويكون هناك يوم واحد مخصص للمصالحات والابتسامات بدل التكشيرات. وهل من الممكن أن يمر يوم واحد بهذا العمر الكافر الجربان بدون صراخ وشد شعر ولبط ومناطحات؟ ولماذا يزج بالسجون والمعتقلات بكل القديسين المحبين في كل الألفيات؟ وكم من قيصر في هذا الزمان؟ ومتى يفرج عن آخر فالانتاين في قلاع الكراهية, والغلو, والحقد, والبغضاء؟ وكم من الفالانتاينين الأبرار يقبعون في الظلمات في دنيا العربان, وكل جريمتهم هو عشق الأوطان؟ ولماذا لا يبشر "قديسونا الطهراء" إلا بطقوس الموت وبراكين الدماء, ولا يوقعوا تهديداتهم وفرمانتهم لنا إلا باسم أبو قتامة, وأبو جهامة, وأبو الويلاء؟ ولا يعرفون من الحروف إلا الواو والياء, ولا يكتبون إلا أوراق النعوات؟
إنها أعياد الحب المحظورات, وفي كل الألفيات, من الفراعنة, والقياصرة والفقهاء, فأحبوا بعضكم بعضا, وتذوقوا متعة الحب والعشق, والوله, والهيام, وجربوا, ولو لمرة واحدة, متعة اللقاءات, فتكتب لكم الحياة والنجاة.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon