اتحاد الناشرين.. خطوة إلى الوراء!

السلطة التنفيذية تسود على السلطة القضائية!

غريب أمر صاغة القوانين في هذا البلد! إنهم يدفعوننا دفعاً للتساؤل: هل يتقصدون إصدار قوانين متخلفة وقاصرة ولا ديمقراطية ليجبروا المهتمين والناشطين على الدوران في حلقة مفرغة من التفاصيل في هذا القانون أو ذاك؟! وإبعادهم عن تطوير عملهم وأدائهم واهتماماتهم لما فيه خير هذا البلد؟!
لم يبق أحد، حتى المسؤولون الحكوميون، إلا اعترف بمدى القصور الشديد في قانون المطبوعات السيئ الذكر. والذي جعل المعنيين به يترحمون على القانون القديم! إذ حوَّلَ القانون المذكور الصحفيَّ والناشرَ، إلى متهمين تحت سيف عقوبات ما أنزل الله بها من سلطان! وقيدهم بعبارات تحتمل إدراج كل شيء، وأي شيء تحتها! وصار السجن والغرامات المالية هاجساً دائماً للعاملين في الإعلام! وفوق ذلك أعطى السلطات التنفيذية صلاحيات غريبة عجيبة بما يضمن الخضوع القسري، ما لم يتحقق الطوعي، لكل مطبوعة أو صحفي للسلطة التنفيذية! وما السنوات القليلة الماضية على صدور ذلك القانون، بما تضمنته من عقوبات وإغلاق صحف وسحب أعداد من السوق.. إلا ترجمة مباشرة لهذا الواقع!
ورغم الحبر الكثير الذي سال في انتقاد ذلك القانون، ليس كمواد فقط، بل أولاً كروحية ورؤية سياسية لدور المجتمع المدني، إلا أن أحداً من المسؤولين، فيما يبدو، لم يقرأ! ولأننا نعرف أنهم قرؤوا، فليس أمامنا سوى أحد احتمالين: إما أنهم يعتقدون أن أحداً لا يفهم غيرهم. وبالتالي فإن كل ما يكتب عما يصدرونه ويعملونه هو مجرد هراء بهراء! وإما أنهم يعتقدون بالديمقراطية وفق القاعدة الشهيرة: قولوا ما تشاؤون، ونفعل ما نشاء!
ليس هذا فقط، بل إن كل تلك المانشيتات العريضة عن إشراك (الشعب)، أقصد الناس بصياغة القوانين المتعلقة بهم وبحياتهم، لم يكن سوى شعارات ليست للتنفيذ! بدليل أن أم القوانين التي تصدر في السنين الأخيرة تصدر فجأة دون سابق إعلان! دون نشر مشاريعها، أو حتى ملخص مشاريعها على العموم ليتمكنوا من نقاشها وإبداء الرأي فيها! وهو رأي أثبت المجتمع المدني المتضمن جميع العاملين في هذا المجال، وبضمنه مهتمون وناشطون (بياخدو العقل) في بعض الجهات الرسمية، أنه بالغ الأهمية!

النشر وفق التوجيهات!
ليست هذه مقدمة إنشائية. بل توصيف لواقع إصدار القوانين في بلدنا. وما القانون الجديد الذي صدر الخميس الماضي (26/5/2005)، ونشر في اليوم التالي، إلا برهان جديد على ما قلناه!
القانون رقم 14 حول إنشاء (تنظيم يسمى اتحاد الناشرين).
فقد جاء القانون متجاهلاً كل ما تم نقده في قانون المطبوعات وغيره من القوانين الأخرى، خاصة لجهة سيطرة السلطة التنفيذية عليه، بما يجعله ملحقاً بها. ولجهة سيطرة حزب البعث العربي الاشتراكي على المنظمات النقابية والمهنية سيطرة مطلقة.
لنقرأ معاً:
(المادة 3: اتحاد الناشرين تنظيم مهني يؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، ويلتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته)!
هذه المادة صيغت قبل أيام! وليس في الثمانينيات من القرن المنصرم! أي قبل أيام من انعقاد مؤتمر حزب البعث الذي ينتظر الكثيرون منه، أكثر ما ينتظرون، أن يجد حلاً ما يؤدي إلى فصل الحزب عن الدولة! لكن هذه المادة تجبر جميع المنضمين إلى هذا الاتحاد على خدمة أهداف سميت أهداف الأمة العربية. وكلنا يعرف أنها الأهداف التي حددها حزب البعث العربي الاشتراكي. وليس الحزب إلا واحداً من تنظيمات عديدة تعتقد بالأمة العربية. فماذا يفعل الذين يؤمنون برؤية أخرى للأمة العربية؟! هل هم منفيون قسراً هذه المرة؟! ثم ماذا عن تصريحات مسؤولين كبار في الدولة، مرات ومرات، عن تخلي الدولة عن النهج الاشتراكي وحسمها خيار اقتصاد السوق؟! وما الذي علينا فعله الآن: أن نخدم الشعار الذي يجري التخلي عنه عملياً يوماً إثر آخر، وقانوناً ضريبياً وتحريرياً للأسعار يوماً إثر آخر؟ أم نخدم الواقع الذي تقوده وتسيطر عليه وتوجهه الدولة باتجاهها الذي نعرفه جميعاً من السوق، قبل المنظرين والمسؤولين، إلى اقتصاد السوق؟!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد. بل الأمرّ من ذلك أن يتم تقييد هذه الأهداف بحصرها بالفهم الذي تقرر (وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته)! وربما كان هذا استفادة من تجارب عدة اتُّهم شيوعيون فيها بمعاداة أهداف ثورة الثامن من آذار المذكورة أعلاه؟! فاقتضى أن يحصر فهم هذه الأهداف وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي! بل وتوجيهاته أيضاً! يعني إذا غيرت قيادة حزب البعث فهمها لمقولة الحرية، فإن على اتحاد الناشرين، والمنضوين تحته، أن يخضعوا للفهم الجديد حالاً؟! وإذا ارتأى أن الوحدة تقتضي الفهم كذا، علينا جميعاً أن نهز رؤوسنا بنعم، أو نطرد من الاتحاد؟! ثم ماذا إذا خرج مؤتمر حزب البعث فعلاً بصيغة ما لفصل الحزب عن الدولة، كيف سيحل هذا التناقض؟! وهل سيعود الناشرون للنضال مجدداً من أجل تعديل هذه المادة؟!

الإقصاء المتعمد!
ولا بد من السؤال هنا: ماذا يفعل الناشرون الذين يؤمنون بأهداف وشعارات الحزب الشيوعي السوري المنضوي في الجبهة؟! وجميعنا يعرف أن له فهماً مختلفاً، ولو نظرياً، للأهداف الثلاثة المذكورة، عن فهم حزب البعث العربي الاشتراكي و(توجيهاته)؟! وماذا يفعل الناشرون من الحزب القومي الاجتماعي السوري الذي انضم مؤخراً إلى الجبهة، وكلنا أيضاً يعرف فهمه الخاص للوحدة وللحرية وللاشتراكية؟! وماذا يفعل غيرهم الذين لا ينضوون تحت هذا الحزب أو ذاك، ويؤمنون، على هذا النحو أو ذاك، بأولوية بلدهم الذي يعيشون فيه: سورية؟!
هؤلاء جميعهم أُقصوا مسبقاً من اتحاد الناشرين وفق القانون المذكور! ولأن إنشاء الاتحاد بقانون، يعني عملياً أنه لن يجري الاعتراف، بله السماح، بأي اتحاد آخر في المجال ذاته، كما هو الحال مع جميع التنظيمات المهنية الأخرى، فعلينا الثقة المطلقة أن من هم خارج هذا الاتحاد سيعانون الأمرين! إذا لم يجدوا أنفسهم بين أروقة المحاكم، أو الجهات الأكثر (عملية) من المحاكم! وخاصة أن القانون أغفل كلياً إدراج صفة (طوعي) في توصيفه لاتحاد الناشرين!
وهذا الأمر ليس من باب التخمين. فقد نصت الفقرة 4 من المادة 9 على زوال صفة العضوية عن الناشر في حال: إذا ارتكب مخالفة صريحة لأهداف الاتحاد..! يعني بالضبط إذا نشر كتاباً لا يتوافق مع توجيهات حزب البعث العربي الاشتراكي! وهنا لم يعد للالتزام (بأهداف الأمة العربية) أية دور. فالتخصيص، كما يعرف الجميع، يلغي التعميم. ولأن هذه الأهداف تم تخصيصها في المادة 3 سابقة الذكر (وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته)، فإن هذه الفقرة الأخيرة تلغي إلغاء تاماً أي فهم آخر لتلك الشعارات. وهذا بالضبط ما يعني أن نشر أي كتاب لا يتوافق مع (توجيهات) حزب البعث، يعني إزالة صفة العضوية عن ناشره! بل ويمكن اعتبار نشر أغلب كتب التراث في القرون الأولى للدولة الإسلامية هو سبب كاف لإزالة صفة العضوية! فجميع هذه الكتب تتحدث عن الأمة الإسلامية ولا تذكر أبداً هذا المصطلح (الأمة العربية)! وتساوي بين المسلم في أصفهان والمسلم في دمشق! كما أن نشر أي كتاب يدعو إلى المبادرة الفردية في أي من أوجه الحياة هو معاد لأهداف الأمة العربية وفق مقررات حزب البعث الذي يرى الفرد في جماعيته ويلغيه في فرديته! بل ولا بد من الإقرار بأن جميع دور النشر التي تصدر الكتب التي تتعاطى مع مفهوم اقتصاد السوق، وبضمنها الكتب التي تصدرها المعارض الصناعية المتخصصة، وغرف التجارة والصناعة، هي دور مقصاة حكماً! فهي تدعو صراحة إلى اقتصاد السوق لا إلى الاشتراكية؟! و.. و..

انتخابات أم تعيين؟!
إلا أن ذلك لم يكف واضعي القانون. بل بادروا إلى ضبط الأمر من داخل الاتحاد، وعدم الاكتفاء بضبطه في قانون إنشائه. ولذلك تقول الفقرة /أ/ من المادة 19 من القانون المذكور: (يضم المكتب التنفيذي إضافة إلى الأعضاء المنتخبين المشار إليهم في المادة 18 -وهم ستة أعضاء- خمسة أعضاء ممثلين عن الجهات التالية: 1- ممثل عن الوزارة (أي وزارة الإعلام). 2- ممثل عن وزارة الثقافة. 3- ممثل عن وزارة التعليم العالي. 4- ممثل عن وزارة التربية. 5- ممثل عن اتحاد الكتاب العرب في الجمهورية العربية السورية)!
لن ندخل فيما إذا كان اتحاد الكتاب العرب هو هيئة رسمية أخرى أم لا. لكنه لم يخرج مرة واحدة في تاريخه على السياسة الرسمية المقررة له، سواء في التفاصيل أم في العموميات. ويحق لنا اعتباره، واقعياً، جهة رسمية تنفيذية أخرى. خاصة أنه يمارس دوره الرقابي وفق أقصى معطيات السلطة التنفيذية. وهو أمر لم يعد ينكره سوى قلة من المسؤولين في الاتحاد!
إذاً، لدينا هنا مكتب تنفيذي مسؤول عن تنفيذ قرارات الاتحاد وإعداد تقاريره السنوية وإدارة العمل فيه واقتراح مشاريع الأنظمة الداخلية ووضع مشروع موازنة الاتحاد واستثمار أمواله و.. مؤلف من أحد عشر عضواً، خمسة منهم معينون تعييناً من جهات مختلفة! أي 45.5 % من أعضاء المكتب التنفيذي! فأي ديمقراطية هذه وأي انتخاب هذا! خاصة إذا عرفنا أن للمكتب التنفيذي، إضافة إلى كل الصلاحيات التي ذكرناها، صلاحية عقد دورة استثنائية للمؤتمر العام (المادة 14)! كما يحق له تسمية ممثليه في المجالس واللجان والنشاطات التي يشارك بها.. وتعيين العاملين في الاتحاد وفقاً لأنظمة الاتحاد!
هؤلاء المعينون الخمسة إذاً، هم ممثلو السلطة التنفيذية المباشرين. وهم قادرون على إجبار الاتحاد على التوجه، قانونياً، كيفما شاءت الجهات المعينة لهم والتي هي جميعها، جهات تمثل السلطة التنفيذية مباشرة أو بالوكالة! فما الذي تبقى للناشرين أنفسهم ليقرروه في اتحادهم ونشاطه؟! وليس هذا وحسب، بل إنه يمكن لهؤلاء الخمسة، وفق الفقرة /ب/ من المادة 28، أن يتقاضوا (تعويضات لقاء حضورهم الجلسات)! وهي تعويضات تصرف من (موازنة الاتحاد)! أما الأعضاء المنتخبون إلى المكتب التنفيذي فيحق لأحدهم أو بعضهم فقط أن يتفرغ لأعمال الاتحاد مقابل أجر شهري! وبعضهم هنا تقول حكماً إن بعضهم الآخر لا يمكنه ذلك! تصوروا ذلك: مكتب تنفيذي لاتحاد ناشرين مؤلف من 11 عضواً، خمسة منهم تعينهم الجهات الرسمية المذكورة ويتقاضون أجراً لقاء حضورهم الجلسات! وستة منهم لا يمكنهم أن يتفرغوا لإدارة عمل لا يوجد شخص واحد قريب قرب عشرة أميال من هذه المهنة لا يعرف أنها تحتاج إلى تفرغ تام لإدارتها بشكل متوسط! وفوق ذلك فإن أجر المتفرغ من الأعضاء المنتخبين يقرره، في النهاية، وزير الإعلام! وما علاقة وزير الإعلام، أو أي وزير أو جهة أخرى بهذا الأمر! وماذا إذا رغب الناشرون في مكافأة عضو بالغ النشاط ويقدم جهداً فذاً في خدمة الاتحاد، ولم يعجب ذلك الوزير لأي سبب كان! عليه تمرير ذلك من تحت الطاولة! وربما إرضاء الوزير!

الدفع إجباري!
أما أن الاتحاد هو، كما في مختلف بقاع الدنيا، اتحاد طوعي لا يلزم غير أعضائه (بالدفع) له، فهذا ما لم يره السادة واضعو القانون! ولذلك نصت المادة 37 منه على: (إضافة إلى الرسوم المحددة في القانون رقم 5 لعام 1993 المتضمن تدقيق الجداول الملحقة بقانون رسم الطابع رقم 1 لعام 1982، يستوفى من طالب الحصول على الترخيص من الوزارة بموجب البند 4 من المادة السادسة من هذا القانون رسم ترخيص دار نشر قدره 5000 ليرة سورية يؤول إيراداً إلى الخزينة العامة للدولة)! فإذا لم أكن راغباً في الانضمام إلى هذا الاتحاد، فلماذا أدفع هذا الرسم؟! ليست الحكومة ولا وزارة المالية ولا الاتحاد مسؤولة عن الرد على هذا التساؤل! تماماً كما أن اتحاد الصحافيين يفرض علي رسماً شهرياً على الدخل الذي أحصله من عملي في جريدة (النور) رغم أن الاتحاد المذكور يرفض الاعتراف بالجريدة المذكورة! ويطالبني بتقديم 20 مادة نشرت خلال سنة، ليدرسها ويقرر إن كنت أستحق شرف لقب (صحفي مشارك) يناله بواب وسائق سيارة في جريدة (البعث) أو (الثورة) أو (تشرين) أو (كفاح العمال) أو.. تلقائياً! ودون أن يقدم لي الاتحاد أية خدمة مقابل ما يفرضه علي من رسوم! وهكذا صار حال دور النشر التي تعاني ما تعانيه من تردي سوق القراءة لأسباب كثيرة أهمها كل تلك التكاليف الهائلة التي تصرفها لكتاب لا بد أن يصير سعره أكبر من طاقة الغالبة العظمة من الـ 95% من السكان الذين يمتلكون 15% من ثروات البلد! على كل دار نشر ترخص من اليوم فصاعداً، وأعدكم أن التعليمات التنفيذية ستصدر متضمنة دفع ذلك بمفعول رجعي للدور المرخصة أصولاً، أن تدفع 5000 ليرة سورية غير مستردة سواء رغبت في الانضمام إلى الاتحاد الذي لا يمكنها الانضمام إليه، على أية حال، قبل مرور سنتين على ترخصيها، أم لا!

خرق للدستور!
في الحقيقة أود صدمكم بالتأكيد أن كل ما قلته حتى الآن لا يعدو أن يكون مجرد مقدمة للطامة الكبرى في هذا القانون! تلك القضية التي قامت الدنيا عليها ولم تقعد في مجلس الشعب حين كان يناقش القانون الأساسي للعاملين في الدولة! والقضية ذاتها التي خرّبت بيت الجمعيات المدنية في سورية دافعة بها إلى الحضيض من حيث العدد والنشاط والفاعلية! أي سيطرة السلطة التنفيذية المطلقة على شؤون أي من مؤسسات المجتمع المدني، والتي يفترض أن يكون اتحاد الناشرين واحداً منها ما دامت المادة 3 من القانون سمته (تنظيماً مهنياً)!
اقرؤوا المادة 32 من هذا القانون:
(المادة 32: يجوز بقرار من مجلس الوزراء حل المكتب التنفيذي في حال انحرافه عن مهامه وأهدافه الواردة في هذا القانون، ويكون القرار غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة والطعن)!
لن نناقش حق مجلس الوزارء بالحل أساساً. ونقطع برأينا أنه لا حق له، ولا لغيره من السلطات التنفيذية أيا كان اسمها، بأي حال من الأحوال. هذا حق مطلق للمنضوين في الاتحاد، وللقضاء المدني العادي. ولن نناقش تلك الجملة المطاطة (في حال انحرافه)! والقابلة لملايين التفسيرات المختلفة والمتناقضة! بل فقط سنناقش إطلاق هذا الحق بأن يكون القرار (غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة والطعن)!
تنص الفقرة 2 من المادة 25 من الدستور: (سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة). وتنص المادة 28 على (1- كل متهم بريء حتى يدان بحكم قضائي مبرم. 4- حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون)! هل قرأتم الجملة الأخيرة جيداً! حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون! هل نعيد تلك الفقرة من دستورنا مرة ثالثة لنؤكد أن قانون اتحاد الناشرين قد خرق الدستور خرقاً بيناً لا لبس فيه حين حرم المكتب التنفيذي الذي يحله مجلس الوزراء من حق التقاضي وسلوك الطعن والدفاع أمام القضاء، بنصه على: (غير قابل لأي طريق من طرق المراجعة والطعن)! هذا خرق فاضح للدستور ويجب على المحكمة الدستورية العليا أن تنظر جيداً في هذا الأمر، ليس في هذا القانون وحده، بل في كل قانون يتضمن جملة من هذا النوع، أو بهذا المضمون!
هذا الخرق واضح ولا يحتاج إلى أي شكل من أشكال المماحكة لتبيانه. لكن، دعونا نتساءل دون أدنى قدر من البراءة: لماذا يصر مجلس الوزراء على تمرير مثل هذا الخرق الدستوري في أغلب القوانين التي يجري سنها مؤخراً؟! لماذا (يخاف) هذا المجلس من القضاء إلى هذه الدرجة التي يقطع الطريق فيها على إمكانية مراجعة قرار اتخذه، وهو ليس من حقه أصلاً وفق مفاهيم المجتمع المدني والحرية وسيادة القانون التي يصونها الدستور والشرائع والقوانين والاتفاقيات الدولية التي وقعنا عليها؟!

معصومون.. ولكن..!
وفي هذه الحالة بالذات، هل أعضاء مجلس الوزراء، أو غيرهم من السلطة التنفيذية أو غيرها، معصومون عن الخطأ والفساد؟! ليس هناك إلا جوابان عن هذا السؤال:
إما: نعم، هم معصومون. وهذا يعني أن كل هذا الفساد الذي يعم البلد وتم الاعتراف به من أعلى سلطة في الدولة، هو فسادي أنا وأبي وأبو أبي الذين لم يتبوؤوا أي منصب مسؤول من أي نوع كان!
أو: لا هم غير معصومين. وهذا يعني أنه يمكن للمجلس أن يتخذ هذا القرار أو ذلك مخطئاً في تقديراته أو لأسباب تنتمي إلى الفساد الذي ذكرناه. فإذا فعل ذلك، فمن سيكون الحكم والمرجع الذي يوقف هذه الاستطالة ويعيد لصاحب الحق حقه؟! إنه القضاء الذي تسعى الكثير من القوانين الجديدة إلى إقصائه بعيداً تحت ألف مسمى ومسمى. إنه الخوف من فقدان استطالات السلطة التي ليست من أساسها ولا يجب أن تكون.
لا يحق لمجلس الوزراء أساساً أن يحل، أو يتدخل في عمل اتحاد الناشرين، ولا اتحاد العمال، ولا اتحاد بائعي الشاورما.. وإذا رأى المجلس أن هذا السلوك أو النهج أو ذاك من هذا الاتحاد أو ذاك يضر بمصلحة البلد، أو (ينحرف) عن القوانين أو يتعارض معها، فالقضاء هو السلطة الوحيدة الحكم بين المواطن والدولة. ليست الدولة هي المواطن ولا يمكنها أن تكون. وحتى الدولة الأكثر صلاحاً في العالم لا يمكنها أن تكون هي المواطن. والقضاء ليس فقط هو الحكم بين المواطن والمواطن. بل قبل ذلك هو الحكم الوحيد المعترف به في الدولة الحديثة للفصل في القضايا بين الدولة والمواطن. خاصة أن الدولة هي صاحبة اليد الطولى في أية قضية. وهي التي تمتلك الأدوات والوسائل والإمكانات لتكون الأقوى باختلال ساحق في القوى. القضاء وحده هو القادر على إعادة هذا الاختلال إلى وضع الطبيعي. وهو القادر على إيقاف النزوع الأبدي في السلطة لكي تتمدد وتستطيل.
مرة أخرى، إن إقحام هذه المادة في هذا القانون، كما في أي قانون آخر، بهذه الصيغة أو تحت أي صيغة مراوغة أخرى، ليس تعدياً صارخاً على حقوق المواطنة، وعلى العلاقة الصحيحة بين الدولة والمجتمع وحسب، بل هو أيضاً، كما برهنا أعلاه، خرق فاضح للدستور الذي هو، بديهياً، أبو القوانين.
هكذا نرى أن هذا القانون، قانون إنشاء اتحاد الناشرين، لم يأت تلبية لرغبة قديمة لدى الناشرين بذلوا الكثير من الجهود لأجل إنشائه. وطالبوا به منذ زمن طويل. ولديهم جميعاً مصلحة مباشرة فيه. ولدى القارئ مصلحة أكبر إذ يأمل أن ينجم عنه سوق كتاب منظم وشرعي وفي متناول يده. بل أتى إجهاضاً لتلك الرغبة، بإضافة منظمة أخرى ملحقة بالسلطة التنفيذية إلحاقاً تاماً. وهو الإلحاق الذي برهنت العقود الماضية على أنه لا يؤدي إلا إلى مصير واحد: الموت المسبق. حتى إن كانت ولادته ولادة قيصرية استهلكت الكثير من الجهود.

بعد كل هذا، ألا يحق لنا التساؤل عن الهدف والغاية من إصدار هذا القانون، على هذا النحو، في هذا التوقيت؟! أم أن بعض المسؤولين هم فقط من يحق لهم أن (يسأل) الآخرين لماذا يفعلون ما يفعلونه في هذا التوقيت؟!

 1/6/2005

جريدة النور

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon