من ثقافة الفحولة إلى ثقافة المواطنة



(أهليّة المرأة للمشاركة السّياسيّة في الخطابات الدّينيّة المعاصرة)

القاع الخياليّ والمكبوتات:
ليس الخطاب مبنيّا على الإرادة الواعية والحجاج العقليّ أو الدّينيّ فحسب، بل إنّه متجذّر في اللاّوعي، حامل معه لقسط من رفض التّفكير. وقد رأينا أن ننظر في مظهرين من رفض التّفكير في الخطاب الدّينيّ عن أهليّة المرأة السّياسيّة، أحدهما يحكم الفكر الطّاعن في هذه الأهليّة، والثّاني يحكم الموقف التّوفيقيّ الذي يودّ مناصرة المرأة انطلاقا من مرجعيّة دينيّة إسلاميّة.

أ- أسطورة الفحل الحيوانيّ-الزّعيم-الأوحد
إلى جانب المعطيات التي تصنع الموضوع عبر حجّة البيولوجيا، والتي ترد واضحة في الحجاج الدّينيّ المناهض للمرأة، يمكن أن نتحدّث عن أسطورة سياسيّة فحوليّة، نعتقد أنّها تمثّل قاعا حاضرا غائبا لمناهضة دخول المرأة الفضاء العامّ ولتقلّدها المناصب. ونستعمل مفهوم الأسطورة بمعنى البنية السّرديّة القابعة على نحو غير مفكّر فيه في المخيّلة والمهيكلة إلى حدّ بعيد للذّوات في سلوكها وتصوّراتها. فنحن نرى أنّ صورة الفحل، أي الذّكر القويّ الشّديد المتغلّب على غيره من الذّكور والإناث ما زالت تحكم تفكيرنا الاجتماعيّ والسّياسيّ من الجاحظ (ت869) إلى عبّاس محمود العقّاد (ت 1964) إلى يومنا هذا. إنّها تندرج في إطار تركيبة فحوليّة-سياسيّة تقتضي بأن يكون الرّئيس ذكرا واحدا متغلّبا، محوّلا بني جنسه إلى مرؤوسين متبوعين. نجد هذه الصّورة في قلب التّصوّر العربيّ القديم للإمامة والسّياسة: يقول الجاحظ في رسالته عن /النّساء/: /وقضيّة واجبة: أنّ النّاس لا يصلحهم إلاّ رئيس واحد، يجمع شملهم، ويكفيهم ويحميهم من عدوّهم، ويمنع قويّهم من ضعيفهم وقليل له نظام أقوى من كثير نشَز لا نظام لهم، ولا رئيس عليهم. إذ قد علم اللّه أنّ صلاح عامّة البهائم في أن يجعل لكلّ جنس منها فحلا يوردها الماء ويُصدرها، وتتبعه إلى الكلأ، كالعَير في العانة (القطيع من حمر الوحش)، والفحل من الإبل في الهجمة، وكذلك النّحل العسّالة، والكراكيّ، وما يحمي الفرس الحصان الحجور (ج حجر بالكسر: الفرس الأنثى) في المروج، فجعل منها رؤوسا متبوعة، وأذنابا تابعة. فالسّلطة الفرديّة المطلقة ترتبط بصورة الذّكر الفحل الأوحد في هذا التّفكير السّياسيّ الذي يؤول إلى إلغاء السّياسيّ، عن طريق المماهاة بين عالم البشر وعالم الحيوان، والإعلاء من شأن البيولوجيّ والطّبيعيّ، أو ما يقدّم على أنّه كذلك، على حساب التّعاقد والاصطلاح والاشتراك.
أسطورة الفحل المتغلّب تظهر في نصوص العقّاد، وهو من أشهر الكتّاب العرب في منتصف القرن العشرين: يقول متحدّثا عن العلاقة بين الرّجال والنّساء: (المرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسيّ، لأنّ الطّبيعة قد جعلتها جائزة للسّابق المفضّل من الذّكور، فهي تنتظر حتّى يسبقهم إليها من يستحقّها فتلبّيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار، كذلك تصنع إناث الدّجاج، وهي تنتظر ختام المعركة بين الدّيكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع). فالأنثى في هذا التّصوّر الطّبيعويّ الماهويّ ليست ذاتا عاقلة مريدة، بل هي كائن غرائزيّ يلبّي نداء الطّبيعة خارج منطق الإكراه والاختيار. وبالإضافة إلى أنّها لا تريد ولا تختار، فهي تقف خارج لعبة الصّراع على السّلطة، بما أنّها ليست طرفا فاعلا في هذا الصّراع بل موضوع له. إنّها لا تتنافس مع الرّجل، وليست تبعا لذلك (إيجابيّة)، بل يتنافس عليها الرّجال، وينالها صاحب الغلبة.
إنّ في صورة الزّعيم الأوحد المخلّص المستبدّ، شيئا من صورة الفحل الأوحد المتغلّب. فللسّلطة الاستبداديّة وجه فحوليّ، أو لنقل إنّ الفحوليّة ليست مجرّد قوانين ومقرّرات تفوّق الرّجال على النّساء، بل هي بنية نفسيّة وفكريّة للدّولة التّسلّطيّة. وهذا ما فهمه قاسم أمين حين تحدّث عن حلقتي الاستبداد: السّاسة مستبدّون بالرّجال، والرّجال مستبدّون بالنّساء. فوضعيّة المرأة ليست بالضّرورة وضعيّة الإناث البشريّة، بل هي عنوان ورمز للمصير الدّونيّ الذي يؤول إليه كلّ مقصيّي النّظام الفحوليّ: النّساء والأطفال والمثليّون والمجانين واللّقطاء والأقلّيات الدّينيّة والعرقيّة وكلّ المجسّدين لـ(المصير النّسائيّ)
وليست هذه المعطيات الأسطوريّة بمعزل عن المعطى الدّينيّ، فالمثال الذي قدّمه الجاحظ ورد في سياق حديثه عن الإمامة باعتبارها رئاسة دينيّة، وما ذكره العقّاد عن صراع الفحول على الإناث مستقى من كتابه عن /المرأة في القرآن/. فالتّركيبة الفحوليّة-السّياسيّة بما تتأسسّ عليه من اعتبارات بيولوجيّة ماهويّة وأسطورة فحوليّة للسّلطة من السّهل أن يضاف إليها بعد دينيّ يزيد في أسطرتها وتأبيدها، فتصبح تركيبة فحوليّة-سياسيّة-دينيّة. يختفي وجه الفحل الحيوانيّ ويظهر فوقه قناع سياسيّ-دينيّ يمثّل وجه الأب الحامي، حامي الحرمات ورافع راية الأمّة. قد تتفاوت درجات دينيّة هذا الأب فيكون /إماما/ أو زعيما شبه دينيّ، إلاّ أنّه يبقى مع ذلك الزّعيم الأوحد المذكّر. فكما يتحوّل النّظام الطّبيعيّ التي تكون المرأة بمقتضاه وعاء سلبيّا وكائنا مختزلا في بعده البيولوجيّ إلى نظام إلهيّ سرمديّ، يختفي الفحل البيولوجيّ المتغلّب، فيتحوّل إلى /إمام/ أو أب حام للحمى.

ب-الحلقة المكبوتة في الخطاب الدّينيّ المدافع عن المرأة:
إنّ الفكر متجذّر في اللاّمفكّر فيه كما أسلفنا، ولذلك فمن الضّروريّ أن ننظر في الحلقات المكبوتة من النّظام الرّمزيّ الإسلاميّ اللاّمرئيّ الذي أنتج الصّيغ التّاريخيّة للعلاقة بين الرّجل والمرأة، ولكنّه يواصل الفعل في الذّوات من حيث هو مكبوت، فيولّد أسطرة الأصل لدى الرّافضين لدنونة الفضاء الاجتماعيّ، ويولّد مغالطات الفردوس النّسائيّ المفقود لدى المدافعين عن المرأة... فمن الحلقات المكبوتة من هذا النّظام الرّمزيّ أفضليّة الرّجل على المرأة كما جاءت في القرآن، فهي المسلّمة الكبرى التي كانت تحكم العلاقة بين الرّجل والمرأة ومنها القوامة أي الرّئاسة في المجال البيتيّ التي ينجرّ عنها مبدأ الطّاعة، ومنها الرّئاسات المختلفة في المجال العامّ. أقرّ القرآن بأفضليّة الرّجل على المرأة من خلال الآية: /ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرّجال عليهنّ درجة، واللّه عزيز حكيم/ (البقرة/228)، والآية المذكرة سابقا: /الرّجال قوّامون على النّساء بما فضّل اللّه عليهنّ بعضهم على بعض.../ (النّساء/34) وتتّضح أبعاد هذه الأفضليّة الانطولوجيّة والسّياسيّة في رسالة ابن أبي الضّياف (ت1874) عن المرأة: /إنّ الذّكر أفضل من الأنثى، وأبو البشر أوّل مخلوق ومنه ولدت حوّاء أمّ البشر، والأصل أفضل من الفرع، فالذّكر أهّله اللّه للنّبوّة والخلافة في الأرض والقضاء والإمامة في الصّلاة ومباشرة الدّفاع عن الدّين والعرض والوطن.../
حلقة تفضيل الرّجل على المرأة هي المفقودة والمرفوضة في التّأويلات الجديدة، وهي المغيّب المشترك بين المدافعين عن المساواة الفعليّة والمناهضين لها. تغيب مثلا في تأويل فريدة بنّاني لمبدأ القوامة، رغم أهمّيّة هذا التّأويل في المطالبة بالمساواة بين الرّجل والمرأة. فقد بيّنت الباحثة نسبيّة هذا المبدأ وعدم ملاءمته للعصر، ونقضت الحجج التي ينبني عليها، ودعت إلى مراعاة /سنّة الإسلام في التّدرّج/، ومراعاة تطوّر الواقع المغربيّ ، و/طابع التّعميم في الآيات القرآنيّة/ إلاّ أنّها لم تذكر الأفضليّة التي يرتّب عنها رغم أنّها ترد في الآية ذاتها التي تنصّ على هذه الصّيغة للعلاقات بين الرّجل والمرأة، وتؤكّدها التّفاسير القديمة على اختلافها.
كما يتمّ إنكار هذه الأفضليّة في التّأويل الجديد الذي قام به متولّي شعراوي، وهو أحد الرّافضين لمنظومة حقوق الإنسان من السّلفيّين الجدد، فقد أعاد تأويل الآية المتقدّمة على هذا النّحو: /إذا قيل إنّ فلانا قائم على أمر فلان، فما معنى ذلك؟ هذا يوحي بأنّ هناك شخصا جالس والآخر قائم..فمعنى قوّامون على النّساء..أنّهم مكلّفون برعايتهم والسّعي من أجلهنّ وخدمتهنّ، إلى كلّ ما تفرض القوامة من تكليفات، إذ القوامة تكليف للرّجل. ومعنى /بما فضّل اللّه بعضهم على بعض/ ليس تفضيلا من اللّه عزّ وجلّ للرّجل على المرأة كما يعتقد النّاس، ولو أراد اللّه هذا لقال: بما فضّل اللّه الرّجال على النّساء، ولكنّه قال: /بما فضّل اللّه بعضهم على بعض/ فأتى ببعض مبهمة هنا وهناك..ذلك معناه أنّ القوامة تحتاج إلى فضل مجهود وحركة وكدح من جانب الرّجل ليأتي بالأموال يقابلها فضل من ناحية أخرى، وهو أنّ للمرأة مهمّة لا يقدر عليها الرّجل، فهي مفضّلة عليه فيها.. فالرّجل لا يحمل ولا يلد ولا يحيض.../
هذه الحلقة التي أصبحت مكبوتة مرفوضة في الكتابات المعاصرة عن المرأة، يجب أن نتذكّرها نحن ونؤوّلها، بدل أن تظلّ أشباحا من الماضي تطاردنا. التّذكّر عمليّة هامّة من أجل تجاوز الجمود والحصار، سواء تعلّق الأمر بذات فرديّة أو جماعيّة.
إنّ الوليد الذي لم ترغب أمّه في إنجابه، يظلّ يصرخ ولا يخلص من علاقته بقصّة مجيئه إلى العالم، ولا يتخلّص من الصّراخ ومن قصّة الأصل إلاّ إذا رويت له وقيل له: لم نرغب في مجيئك، ولكنّك الآن أصبحت محلّ حبّ ورغبة، وكذلك المرأة. فقد قامت الأديان التّوحيديّة على أنقاض وثنيّة كان للآلهة المؤنّثة فيها دور أساسيّ يحول دون التّوحيد. أمّا الآن فيجب أن تروى هذه القصّة لكي تعي المرأة الآن أنّها فعلا كانت محلّ نفور واحتقار أصليّين، وأنّها تقدر الآن على التّحرّر من هذا الأصل، أو على الانفلات من أقاصيص الماضي المكبّلة لإبداع أقاصيص أخرى. وهذا ما فعله في رأيي بعض المصلحين الأوائل ممّن يتّسم خطابهم بجرأة أصبحت اليوم نادرة: ففي سنة 1930 كتب المصلح التّونسيّ الطّاهر الحدّاد (ت 1935) بهذا الوضوح: /لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعيّة بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التّامّة وروح الحقّ الأعلى، وهو الدّين الذي يدين بسنّة التّدريج في تشريع أحكامه حسب الطّوق/ .

من ثقافة الفحولة إلى ثقافة المواطنة
ليست التّركيبة الفحوليّة-السّياسيّة موجودة في العالم العربيّ فحسب، بل نجد لها أصداء في العالم المتقدّم. يمكن أن نشير إلى اتّجاه في السّوسيولوجيا الأميركيّة ظهر في السّبعينيات من القرن الماضي وسمّي بـ/السّوسيوبيولوجيا/. يرى أقطاب هذا الاتّجاه أنّ البيولوجيا هي التي تحدّد في نهاية الأمر /الماهيّة/ الأنثويّة والذّكوريّة، فيفسّرون كلّ سلوك بالوراثة الجينيّة وبالوظائف النّورونيّة، ويرون أنّ الجنس قوّة لااجتماعيّة، وأّن الذّكور خلقوا لكي يتنافسوا على النّساء، وهذا سبب سيطرتهم عليهنّ. بل يذهب بعضهم إلى أنّ الاغتصاب أمر طبيعيّ، لأنّ تنافس الذّكور على الإناث، كما في نصّ العقّاد، أمر طبيعيّ. إلاّ أنّ هذه النّظريّة تبقى في الغرب غير فاعلة وغير مؤثّرة في سنّ القوانين المنظّمة للعلاقات بين النّساء والرّجال، والمنتصفة للنّساء في مجال المشاركة السّياسيّة. وقد بيّنت بعض الأبحاث أنّ هذا الاّتجاه (السّوسيوبيولوجيا) لم ينتشر ويلق صدى في فرنسا مثلا إلاّ لدى منظّري اليمين الجديد، فهو اتّجاه يظلّ مطوّقا وغير مقبول.
إنّ النّوازع الذّكوريّة ما زالت قائمة في العالم أجمع، إلاّ أّن العالم الغربيّ طوّر المعارف والمبادئ والآليّات التي تقيه منها إلى حدّ بعيد. ومن هذه المعارف البحث في /الجندر/ أو النّوع الاجتماعيّ وهو بحث يسير في اتّجاه معاكس للسّوسيوبيولوجيا، فهو كما أشرنا يعتبر الفوارق بين النّساء والرّجال ثقافيّة تاريخيّة لا طبيعيّة سرمديّة. ومن المبادئ والآليّات مبدأ المساواة الذي أصبحت له فاعليّة قصوى في شتّى مجالات الحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة وآليّة /إنصاف/ النّساء التي نشأت لجعل مبدأ المساواة أكثر فاعليّة في المجال السّياسيّ، بحيث أنّها تمثّل /تمييزا إيجابيّا/ ظرفيّا من شأنه أن يساعد النّساء على دخول البرلمانات وحلول المناصب التّسييريّة.
أمّا في العالم العربيّ، فالتّركيبة الفحوليّة السّياسيّة يضاف إليها كما رأينا بعد دينيّ يؤسطرها و/يؤمثلها/ ويؤبّدها. ولكنّ الأدهى هو أنّ هذه التّركيبة الفحوليّة-السّياسيّة-الدّينيّة ليست مهمّشة في الممارسة الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة. فالبلدان العربيّة تنتج منذ العشرينيات على الأقلّ، وتصدّر موجات من الثّقافة المعتمدة لهذه التّركيبة، الملحّة على بعدها الثّالث. هذه الثّقافة المناهضة لخروج المرأة من حجبها، المناهضة لتقلّدها وظائف الزّعامة، مدعومة بالكثير من التّشريعات في الكثير من البلدان العربيّة، مدعومة بالمؤسّسات الدّينيّة الكبرى التي ما زالت رافضة لحقوق الإنسان، ولحقوق الإنسان للمرأة، بل إنّها مدعومة بالهياكل التّمثيليّة المنتخبة، فالبرلمانات العربيّة لا تسير في الغالب في اتّجاه الاعتراف بأهليّة المرأة ومساواتها التّامّة مع الرّجل، الدّليل على ذلك رفض البرلمان الكويتيّ منح النّساء حقوقهنّ السّياسيّة المرّة تلو الأخرى. والدّليل على ذلك مطالبة الكثير من البرلمانيّين المنتخبين بالتّراجع عن الحقوق الممنوحة للمرأة. ففي سنة 1988 دعا أحد نوّاب التّيّار الإسلاميّ في /مجلس الش ّعب/ المصريّ /بعدم تعيين الإناث في الوظائف الحكوميّة من أجل القضاء على ظاهرة البطالة./
هذه الثّقافة ليست مهمّشة وهي إلى ذلك كلّه ثقافة رائجة، تكاد تهيمن على وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة، والقنوات الفضائيّة العربيّة التي تخصّص حصصا هامّة لشيوخ الإفتاء أبرز مثال على رواج هذه الثٌّقافة وتلبيتها لحاجيات الجماهير العريضة. خصوصيّتنا الثّقافيّة إذن هي هذه: لا نتحفّظ على حقوق المرأة فحسب، بل ننتج ثقافة تقدّم ترسانة من الأحكام والفتاوى والتّصوّرات المناهضة للمرأة.
بين التّمسّك بمنظومة فقهيّة صنعت لمجتمعات قديمة، وإكساب شرعيّة معاصرة لأفكار قديمة، وإكساب شرعيّة قديمة لأفكار معاصرة ربّما أمكن لنا أن نجد بدائل أكثر ملاءمة مع الذّات المسؤولة التي نريد أن نبتنيها. إنّها بدائل لا تتطلّب اجتهادا، بقدر ما تتطلّب جهدا عمليّا ونفسيّا. أمّا الجهد العمليّ فيتمثّل بكلّ بساطة في الإقبال على الممارسة السّياسيّة. فلا تكفي مقترحات الإصلاح الدّينيّ بل والتّيولوجيّ لمواجهة بنى الفحولة وتعبيراتها الدّينيّة، بل لا بدّ أوّلا من إقبال النّساء فعليّا على المطالبة بحقوقهنّ السّياسيّة والمدنيّة وإقبالهنّ على المشاركة، فالممارسة السّياسيّة هي التي من شأنها أن تخلق المشهد السّياسيّ، وتنضج الفعل السّياسيّ. ولا بدّ ثانيا من أن تنتج الحركة الحقوقيّة العربيّة، أو تواصل إنتاج ثقافة مدنيّة جديدة مبنيّة على المساواة، ومن أن تعتمد استراتيجيّات ناجعة لترويج هذه الثّقٌافة على النّطاق الواسع حتّى لا تترك المجال واسعا أمام الثّقافة الدّينيّة الفحوليّة المستشرية. أمّا الجهد النّفسيّ فهو الذي سنهتمّ بتفصيله منطلقين من الفرضيّة الموالية: الفحولة ليست بنية للمجتمع وللدّولة معرّض ة اليوم إلى الخطر فحسب، بل هي أيضا بنية نفسيّة للثّقافة السّائدة في العالم العربيّ، ولذلك فقد تجد آليّاتها لدى المدافعين عن المرأة أنفسهم. وأقصد بالبنية النّفسيّة الفحوليّة الوضعيّة المتمثّلة أساسا في رفض الفقدان والنّقص، ورفض المستحيل الذي يفرضه الواقع، وطلب القوّة والهيمنة. فربّما آن الأوان لأن ننطلق من فقدان أوهامنا لا من الاحتفاء بها وزيادة تغذيتها، ولأن ندرك أنّ سياسة سحب البساط من الواهمين بالأصل الفردوسيّ المفقود بمشاركة هؤلاء في جزء من أوهامهم لا تزيد إلاّ في تعميم الوهم وزيادة التّمسّك الماليخوليّ به، والماليخوليا هي العجز عن الحداد، أي العجز عن قبول واقع الفقدان، واقع فقدان الوهم وواقع اليتم واستحالة عودة الماضي. وهذا هو شأن الفحولة الجريحة التي ترفض واقع النّقص وتصطدم به.

أ- فاقد الشيّء هو الذي يمكن أن يعطي. يمكن أن يشرع في العطاء. يمكن أن ننطلق من الوعي بالفقد لنقول إنّ المشاركة السّياسيّة عموما لا المشاركة السّياسيّة للمرأة فحسب، أمر لم يكن مفكّرا فيه في الأبيستميه القديمة. إنّه مفهوم يحيل إلى سجلّ المواطنة، بل هو مرادف للمواطنة من حيث هي إسهام في تسيير المدينة. وهذا المفهوم تشكّل في نسيج فكريّ حديث، أي في علاقة بمفاهيم /التّعاقد/، تعاقد الارتباط الذي يكون مصدر السّيادة السّياسيّة، ومفهوم /دولة القانون/ التي تعني أنّ سلطة غير شخصيّة هي سلطة القانون فوق كلّ الأشخاص، و/التّفرقة بين السّلطة/ و/المساواة/ واللاّئكيّة التي لا تعني الإلحاد بل تعني أنّ الشّرعيّة السّياسيّة لا يمكن أن تستمدّ من الدّين، لأنّ الممارسة السّياسيّة لابدّ أن تكون بشريّة وإن نطقت باسم الدّين، وتعني التفرقة بين الخاصّ والعامّ لأنّ العامّ يجب أن يكون مشتركا، وتعني حياد الدّولة دينيّا.
فمرجعيّة هذا السّجلّ ليست تراثيّة، والتّقابل بين المرجعيّتين الفقهيّة والدّيمقراطيّة أساسيّ، رغم أنّ المطامح العامّة التي تسيّره توجد في التّراث، أعني التّوق الإنسانيّ، توق كلّ إنسان إلى العدالة والمساواة والحرّيّة. فقد بيّنت بعض الأبحاث العربيّة الحديثة أنّ النّظريّة السّياسيّة التي سادت في تراثنا هي نظريّة مماثلة لنظريّة الحقّ الإلهيّ للملوك يعبّر عنها مبدأ /طاعة الإمام من طاعة الله/ ، بحيث تمّ ربط هذه الّطاعة بالسّعادة، وأصبحت /جزءا من العقيدة السياسية لأهل السّنّة والجماعة./ وفيما يلي بعض النّقاط الدّالّة على اختلاف المرجعيّة التّراثيّة عن المرجعيّة الدّيمـقراطيّة الحديثة:
* لقد اهتمّ الفقه الإسلاميّ الذي أصبح يسمّى /الشّريعة/ بكلّ صغيرة وكبيرة في مجال العبادات والمعاملات، ولكنّه لم يقنّن سلطة أولي الأمر على نحو من الأنحاء، ولم ينتج مؤسّسات وآليّات لمراقبة الحكم. بل نجد تبريرا للسّلطة الجائرة في الأبواب المتعلّقة بالخارجين على سلطة الإمام أو /المحاربين على التّأويل/ وحكمهم القتل في الغالب، ومن هذه الأبواب باب /الحرابة/ و/باب البغي/ . فلم يكن يوجد في الممارسة السّياسيّة القديمة سوى ثنائيّ الرّاعي والرّعيّة، وقد كان الفقهاء والعلماء في أحسن الأحوال يكتفون بتقديم النّصائح للخلفاء والأمراء.
*اقتصرت كتب الآداب السّلطانيّة، التي كانت نتيجة تثاقف بين العرب والفرس، على التّدبير السّياسيّ العمليّ خاصّة، ولم تهتمّ بأصل السّلطة وشرعيّتها وعدلها وإنصافها، بل اهتمّت بتبرير انتقال الخلافة إلى ملك عضوض منذ منتصف العقد الرّابع من القرن الأوّل وقامت بوظيفة /تكريس تصوّرات معيّنة للسّلطة وإبراز حتميّة القهر كخاصّيّة ضروريّة لكلّ سلطة في التّاريخ، ولزوم الولاء والطّاعة والصّبر، وهي أخلاق العامّة المطابقة لإرادة التّاريخ ومقتضيات الزّمن، حيث لا مفرّ من السّلطان القاهر العادل، القويّ والمنصف.../
*مبدأ الشّورى الذي يقدّم اليوم على أنّه بديل ممكن للدّيمقراطيّة قد يمثّل توقا إلى عقلنة القرار السّياسيّ، ولكنّه لم يتحقّق طوال التّاريخ، ولا يذكر ضمن شروط الإمامة، وهي الرّئاسة العامّة في الدّين والدّنيا، وهو إضافة إلى ذلك يبقى دون المأمول لأنّ هذه الشّورى تتمّ بين أهل /حلّ وعقد/ غير منتخبين، وليس من بينهم نساء. فالتّمسّك بهذا النّموذج هو من باب رفض الحداد على الأموات، ومن باب عبادة الذّوات الضّعيفة لأشيائها الخاصّة، وافتخار المنطوي على نفسه بما يعدّه الأفضل والأصلح.

ب-الوعي بالتّاريخ وعي بالنّسبيّة، والوعي بالنّسبيّة وعي بالحدود. وما ينظّم علاقات النّاس في الدّنيا مبصوم بالدّنيويّة وإن كان ينطق باسم الدّين، مبصوم بانتمائه إلى زمانه. ولذلك فلا بدّ من مواصلة بيان تاريخيّة الأحكام الفقهيّة، لا سيّما تلك المتّصلة بمجال المعاملات، ولا سيّما تلك المتّصلة بالمراتبيّة الاجتماعيّة وبتقسيم الأدوار الجندريّة. وبيان تاريخيّة الأحكام الدّينيّة المتّصلة بالمعاملات يعني الوعي بالوظيفة التي كانت تؤدّيها في السّياق الاجتماعيّ الذي ظهر فيه الوحي.
فالخمار مثال على ما يمكن تنسيبه ببيان وظيفته التّاريخيّة وعلاقته بالتّمايز الطّبقيّ. فإضافة إلى كونه مكمّلا لمؤسّسة /الحجاب/، أي للفصل المؤسّسيّ بين فضاءين عامّ وخاصّ، كان وسيلة تمييز بين الحرائر والإماء كما يفهم من تفسير الآية 59 من سورة الأحزاب : /يَا أَيّهَا النَّبِيّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتك وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبهنَّ/ جَمْع جِلْبَاب وَهِيَ الْمُلَاءَة الَّتِي تَشْتَمِل بِهَا الْمَرْأَة أَيْ يُرْخِينَ بَعْضهَا عَلَى الْوُجُوه إذَا خَرَجْنَ لِحَاجَتِهِنَّ إلَّا عَيْنًا وَاحِدَة /ذَلِكَ أَدْنَى/ أَقْرَب إلَى /أَنْ يُعْرَفْنَ/ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِر /فَلَا يُؤْذَيْنَ/ بِالتَّعَرُّضِ لَهُنَّ بِخِلَافِ الْإِمَاء فَلَا يُغَطِّينَ وُجُوههنَّ فَكَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَعَرَّضُونَ لَهُنَّ /وَكَانَ اللَّه غَفُورًا/ لِمَا سَلَفَ مِنْهُنَّ مِنْ تَرْك السِّتْر /رَحِيمًا/ بِهِنَّ إذْ سَتَرَهُنَّ/.

ج- ما يحول دون الاعتراف بأهليّة المرأة للمشاركة السّياسيّة للمرأة هو عين ما يحول دون السّياسيّ، أو ما يقضم فضاء السّياسيّ باستمرار. فواجب الطّاعة في المجالين الخاصّ والعامّ، والبنى الصّهريّة المنجرّة عنه هي المناطق الكارثيّة التي يجب أن نعي بها. واجب الطّاعة الزّوجيّة يصهر الزّوج في الرّئيس، ويصهر الخصم في القاضي، ويحدّ من إمكانيّات التّقاضي بالنّسبة للزّوجة، أي لا يترك مجالا لسلطة القانون التي يجب أن تكون فوق الجميع. وواجب الطّاعة في المجال العامّ يصهر الأب-الفحل في الرّئيس، ويحول دون السّلطة التي من شأنها أن تحدّ من السّلطة. فالأب يطاع ولا يحاسب لأنّه وليّ النّعمة ومالك الرّقاب، وهو راع لا تسأله رعيّته عمّا يفعل. وإذا كان هذا الأب-الفحل-الرّئيس إماما يضع قناعا دينيّا ويتكلّم باسم الدّين كما في الدّول التّيوقراطيّة، فإنّ وطأة الثّنائيّة الاستبداديّة تشتدّ وتحتدّ. فلا يمكن للسّياسيّ أن يظهر دون تفرقة بين الوظائف والسّلطات، ودون وجود سلطة غير شخصيّة تكون فوق الجميع، ودون وجود مجال عامّ معلمن. فالممارسة السّياسيّة لا يمكن إلاّ أن تكون بشريّة، ولا يمكن أن نحاسبها ونقيّمها إلاّ ع لى هذا الأساس.

د-الأنثى في ثقافة الحجب والتّأثّم المنتشرة تولد آثمة، وعليها أن تثبت يوميّا براءتها. والخمار هو علامة الإثم ودليل البراءة المستحيل، لأنّ الخمار يجب أن يجرّ وراءه كوكبة لا تنتهي من الأفعال والسّلوكيّات الهوسيّة المتناقضة مع الفعل والمشاركة: رفض الاختلاط، رفض الخلوة، رفض المصافحة واعتبار المرأة مواطنة من نوع خاصّ. فما قد يعوق المشاركة السّياسيّة للمرأة هو اختزال المرأة في جنسها، أي في كونها أنثى، تنبعث من جسدها إشعاعات /الفتنة/ الفاسدة. لقد انتقلنا من الحجاب بالمعنى الفضائيّ، بمعنى الحاجز الفاصل بين المجال الخاصّ الذي تأهله المرأة المحرّمة والمجال العامّ إلى الحجاب بمعنى الثّوب المسدل على المرأة، وهو ثوب لا يعوقها كثيرا عن العمل والخروج. إلاّ أنّه تجسيد لمنطق التّأثّم الذي يظلّ باسطا ظلاله على جسدها وعلى المدينة.

هـ-مقولة الاختلاف الجنسيّ مقولة خاوية، لا يمكن التّفكير فيها دون ملئها باعتبارات جنسيّة تكرّس هيمنة جنس على الآخر.

وما نلاحظه هو تردّد النّسويّة العربيّة في الغالب بين طرحين لقضيّة المرأة: طرح إنسانيّ يلحّ على الاشتراك بين الرّجل والمرأة في المنزلة الإنسانيّة، وهو الطّرح الذي ظهر منذ كتاب سيمون دي بوفوار عن /الجنس الثّاني/ وطرح اختلافيّ يلحّ على الاختلاف، وهو قد يفضي إلى تفضيل المرأة على الرّجل. فلعلّ الحركة النّسويّة العربيّة تغنم كثيرا إذا تمسّكت بكلّ وضوح بالطّرح الإنسانيّ الأوّل وإذا فضحت المقاربات التي /تجوهر/ الفوارق بين النّساء والرّجال لغايات تخدم الهيمنة لا المساواة. ولذا فالأفضل أن لا نقول لأطفالنا: هناك جنسان: ذكر وأنثى، بل أن نقول لهم: الإنسان في أيّ مكان يولد فيكون أنثى أو ذكرا أو غير ذلك.

هذه بعض النّقاط في برنامج ينتظرنا هو برنامج ترسيخ ثقافة المواطنة في الممارسات الخطابيّة والسّياسيّة وفي النّفوس والأفئدة، وفي عقول أطفالنا الصّغار، فالثّقافة أيضا لا تحبّ الفراغ: حيث تغيب المواطنة والمساواة والدّيمقراطيّة، تحضر الصّور الفحوليّة المطمئنة الخادعة: صور الذّكر المتغلّب المخلّص أو الأب الأوحد الحامي، أو الزّعيم الموزّع لأوهام القوّة والغلبة، فيصعب على النّفوس قبول صور ما زالت باعثة على القلق: صورة المرأة-المواطنة، المرأة غير-المحجوبة، المرأة-الرّئيسة. هذا ما يحصل في عالمنا العربيّ اليوم: ما زلنا أطفالا سياسيّين يبحثون عن الأب الحامي ويغمضون أعينهم عن القساوة اللاّديمقراطيّة وعن اللاّمساواة الموحشة القابعة خلف الصّور الأليفة.

11/9/2004
جريدة الاتجاه الآخر

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon