إعلام.. أم داخلية؟!

لا يكاد يوم يمر دون أن أخوض نقاشاً، أو أعرِّج في نقاش على (الهامش) المتاح للحرية في هذا البلد! ونظراً لواقع الحال، فإنني أضطر دائماً لاستخدام يديَّ الاثنتين كشمبانزي مذعور على شجرة عارية، وهزّ رأس كضب محشور في زاوية، ورفع صوتي كمن يصرخ في طاحون!

لكن ما سمعته مؤخراً، جعلني أطأطئ رأسي خجلاً من فتح فمي بكلمة واحدة حول هامش ما، مهما ضاق! حتى إنني شعرت أن الأمر يعنيني شخصياً، ويهدف إلى تفنيد رأيي أنا بالذات! تماماً كما تشعر امرأة فقيرة تسترزق من بضعة أشياء تنشرها على بسطة في الشارع، حين يداهمها شرطي يحمل قوة وقسوة ولا منطقية حكومة تعجز عن مكافحة فسادها، فتلجأ إلى أبلغ أشكال الإهانة والحط من الكرامة حين تنشغل كلياً بهؤلاء الفقراء العاطلين، أو شبه العاطلين عن العمل!

فقد قالت أنباء إن الدكتور محمد محمود برغوت الصالح، الطبيب في المشفى الوطني في حماة، يمثل الآن أمام القضاء العسكري بتهمة (تسريبه) معلومات إلى الزميلة (قاسيون)، ونشره مقالة فيها تحت عنوان "ماذا بقي من وطنية المشفى الوطني في حماة، يشير فيه إلى واقع الحال في هذه المؤسسة الصحية!

ويبدو أن الأمر صحيح. بدليل أن أحداً من المسؤولين لم يخرج علينا بتكذيب لهذا النبأ. أو بتصحيح للتهمة الموجهة إليه!

وما أثار لديَّ تساؤلات لا تنتمي إلى البراءة بشيء:
- أين ذهب التعميم الصادر عن وزارة الإعلام، الذي طنطنت به الصحف والإذاعة والتلفزيون حتى أصمَّتْ به آذاننا، ويطلب فيه إلى كل العاملين في الجهات الحكومية التعاون مع الصحافة والصحفيين والإعلام عامة؟!
- ما علاقة القضاء العسكري بهذا الأمر؟! فالمشافي الوطنية في سورية، حسب علمي القاصر، تابعة لوزارة الصحة لا لوزارة الدفاع! والطبيعي أن ترفع الدعاوى المتعلقة بها إلى القضاء المدني لا إلى القضاء العسكري! أم أن الدعوة تلك رفعت وفق قوانين الطوارئ والأحكام العرفية لا وفق القانون المدني السوري؟!
- تحت أي بند في قانون المطبوعات، أو القوانين الناظمة لعمل المستشفيات، أو أي قوانين مدنية أخرى يندرج بند (تسريب معلومات إلى الإعلام)؟!
- أليست هذه التهمة هي اعتراف علني لا لبس فيه بأن ما قاله الدكتور الصالح هو (معلومات)؟! أي أنها حقيقية وموجودة على أرض الواقع؟!
- لماذا وقع الفأس في رأس هذا الطبيب ولم يقع في رأس الأطباء والموظفين الآخرين الذين نشروا، أو ساهموا في نشر وفضح الفساد والخلل والقصور في المشافي والمؤسسات التي يعملون فيها؟! وفي (النور) وحدها، عدا غيرها، وبضمنها الصحف الحكومية، أعداد كبيرة من هذه الأسماء؟!
- هل (نأمل ونستبشر) أن كل موظف حكومي يقول كلمة عن فساد في مؤسسته، أو يقدم لصحفي مادة عن ذلك، سيكون مصيره الاعتقال والتقديم إلى القضاء العسكري؟!
- هل المشكلة في أنها (قاسيون)؟! أي جريدة غير مرخصة قانوناً، وإن كانت مرخصة بأكثر أشكال الترخيص شيوعاً في بلدنا: غض النظر؟! وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يلقى القبض على المسؤولين عن (قاسيون) ويقدمون إلى محكمة أمن الدولة العليا ليحاكموا على (نشرهم أكاذيب تمس أمن الدولة) وفق المرسوم 6 الشهير؟!

في الحقيقة فكرت وأنا أقرأ هذا الخبر أن أتصل بالدكتور شفيق طه بالي، كاتب المقال المنشور في هذه الصفحة بعنوان (رؤية لتطوير الوضع الصحي في سورية)، وأسأله إن كان سمع بالنبأ المذكور؟ وأقدم له نصيحة مجانية أن يسحب مقاله ويتكل على..

إذاً، وتبريراً لعنوان هذه الزاوية، يجب على وزارة الإعلام أن تسحب تعميمها السابق، وتنشر تعميماً آخر ينص على أن كل من يسرب معلومة أو يتعاون مع صحفي أو إعلامي لكشف مواطن الفساد في مؤسسته أن يهيئ نفسه لاعتقال فوري ومحاكمة غير مدنية.

أو على وزارة الداخلية أن تخرج عن صمتها الإعلامي وتقول لنا: لماذا اعتقل د. الصالح وقُدِّم إلى القضاء العسكري!

وهناك خيار ثالث، أرجو أن لا يتحقق، هو أن أعود إلى بيتي بعد هذه الزاوية فأجد (مَن) ينتظرني فيه! وفي هذه الحال، أود إخباركم أن حقيبتي (الخاصة) جاهزة منذ قدم لي مسؤول من إحدى الجهات (المعنية) نصيحة ذات ليل: (يجب أن تبقى حقيبتك التي تضم ثياباً داخلية وسراويل سميكة وبعض المستلزمات جاهزة على الدوام. فقد لا يكون لدينا وقت كاف لتغير ثيابك)!

23/2/2005

جريدة النور

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon