جولة جديدة لكنها شديدة، من سلسلة جولات يقودها تيار التغريب، وهي الجولات التي يصارعون فيها شريعة الإسلام، بدعوى رفع الظلم الواقع على المرأة في المجتمعات الإسلامية. جولاتهم السابقة كان فيها شيء من التروي والمواربة والمراعاة لردود الأفعال، أما الجولة الجديدة فقد بدأت سريعة مفاجئة، وجاءت صريحة واضحة، ولم تخرج من قلب العالم الإسلامي هذه المرة، بل خرجت من الغرب نفسه، حيث بدأت هذه الجولة من نيويورك في أمريكا. خطوة جريئة حقاً، تثير كثيراً من الأسئلة، وتقتضي الوقوف حيالها بالفحص والدراسة. دعونا أولاً نستعرض ما فعلته هذه المرأة باختصار: أمينة ودود (أستاذة مادة الدراسات الإسلامية في جامعة فرجينيا كومونولث الأمريكية)، مهدت أولاً بنشر كتاب (القرآن والمرأة)، الذي وضعت فيها أفكارها التي تبنتها وتدعو إليها، وتتلخص في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في التكاليف الشرعية، فترى أن من حق المرأة أن تؤم المصلين رجالاً ونساء، وأن المرأة يمكنها أن تصلي في الصفوف الأولى مع الرجال، ولا مانع أن تكون في الصف مختلطة بهم، وأن من حق المرأة أن تؤذن للصلاة وتقيم لها في المساجد، وروجت لهذه الأفكار، ودعمتها منظمات أمريكية تدعو إلى حرية المرأة المسلمة، وتنظم لذلك النشاطات والمؤتمرات، ليكون مقدمة لخطوتها التالية التي دوى صداها في أرجاء العالم. وفي يوم الجمعة 18 مارس/ آذار، كما أعلنت أمينة ودود من قبل، وتنفيذاً لما بثته من أفكار، اجتمعت هذه المرأة بمن يؤيدها أو فتن برأيها، لصلاة الجمعة في إحدى الكنائس بسبب تهديدات وصلتها، ورفعت أذان الجمعة امرأة مكشوفة الشعر، وخطبت أمينة ودود الخطبتين، وأمت من وراءها من رجال ونساء مختلطين، وبرزت النساء في الصفوف الأولى، بعضهن متبرجات مكشوفات الشعر لابسات للبنطلون، وكان عدد من صلى وراءها 90 شخصاً تقريباً من الرجال والنساء. وقد عبّر عن رؤيتهن واعتزازهن بما فعلنه ما قالته بعضهن من أنهن حققن انتصاراً تاريخياً، وإنهن مستعدات الآن لاكتساح باقي أمريكا بلدة بلدة ومدينة مدينة - كما ذكر مراسل قناة الجزيرة ذلك عنهن في تقريره -. موقف المسلمين في العالم تجاه هذا الحدث كان واضحاً، ففي أمريكا نفسها كان أبرز موقف إسلامي رسمي هو البيان الذي أصدره مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، واستنكر هذا العمل موضحاً بطلانه، وقد خصص للرد على سؤال ورد حول حكم إمامة المرأة لصلاة الجمعة وإلقائها لخطبتها. وفي غير أمريكا اتفقت ردود الأفعال، سواء منها ما صدر عن بعض العلماء أو ما كان من بحوث مختصرة في حكم إمامة المرأة أو ما كان صادراً في وسائل الإعلام، على أن ما فعلته هذه المرأة باطل مخالف للأدلة الصحيحة وأقوال جمهور العلماء. وقفات لا بد منها: لا أريد هنا البحث في القضية من جانبها الفقهي، فقد نشرت كثير من البحوث والدراسات والفتاوى حولها، ولأن بطلان ما فعلته هذه المرأة ومن معها لا يخفى، وإنما أرى - مع هذا- من الأهمية بمكان طرق الجوانب الأخرى، فليست القضية مجرد مخالفة فقهية أو مجرد بدعة فعلها هؤلاء، ينتهي أثرها ببيان حكمها الفقهي فحسب، بل أرى الأمر أكبر من ذلك، فما حدث لا بد أن ننظر إليه في سياقه الكبير، فهو جزء من مخطط كبير، وجولة من جولات يتم سحب المسلمين للدخول فيها بطريقة ماكرة. لو عقدنا مقارنة بين ما فعلته أمينة ودود وما حدث في نشأة حركة تحرير المرأة لتبين لنا الخطر، فقد نشأت حركة تحرير المرأة مجرد أفكار نشرت في بعض الكتب، وكذلك فعلت أمينة ودود بنشرها أولاً كتابها (القرآن والمرأة)، لكنها ركزت على قضية جديدة للجولة الجديدة وهي المساواة بالرجل في التكاليف الشرعية، أما الكتب التي أسست لظهور حركة تحرير المرأة فكانت تركز على الحجاب، وهي كتاب (المرأة في الشرق) تأليف مرقص فهمي المحامي، نصراني، دعا فيه إلى القضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط وتقييد الطلاق، ومنع الزواج بأكثر من واحدة، وإباحة الزواج بين النساء المسلمات والنصارى. وكتاب (تحرير المرأة) لقاسم أمين، نشره عام 1899م، زعم فيه - أرجو أن تنتبه هنا- أن حجاب المرأة السائد ليس من الإسلام، وقال: إن الدعوة إلى السفور ليست خروجاً على الدين –وهذه حجج أمينة ودود لكنها في إمامة المرأة للرجال وصلاتها في الصفوف الأولى وغير ذلك مما ذهبت إليه- ، كتاب (المرأة الجديدة) تأليف قاسم أمين أيضاً - نشره عام 1900م ضمنه أفكار الكتاب الأول، لكنه استدل فيه على أقواله وادعاءاته بآراء الغربيين. مجلة السفور التي صدرت في أثناء الحرب العالمية الأولى، من قبل أنصار سفور المرأة، وكانت تركز دعوتها على السفور والاختلاط. ثم جاء وقت التنفيذ، وتم اختيار التوقيت بدقة، كما فعلت أمينة ودود التي رأت أن الأجواء العالمية مناسبة لتنفيذ مخططها، حيث افتقد المسلمون الهيبة، وتفرقت فيهم الكلمة، وكذلك خططت نور الهدى محمد سلطان التي اشتهرت باسم هدى شعراوي (نسبة لزوجها علي شعراوي كما يفعل الغرب) من قبل، فقادت النساء في ثورة سنة 1919م في مصر، وبدأت حركتهن السياسية بالمظاهرة التي قمن بها في صباح يوم 20 مارس سنة 1919م، وحانت ساعة التنفيذ حينما نزع سعد زغلول عن وجه هدى شعراوي الحجاب أمام الحاضرين عند استقباله في الإسكندرية بعد عودته من المنفى، واتبعتها النساء فنزعن الحجاب بعد ذلك. إذن هي خطة مدروسة، استفادت منها أمينة ودود تحاكي فيها السافرة الأولى هدى سلطان (المعروفة باسم هدى شعراوي)، وتريد أن تكسب الجولة كما كسبتها. إذن القضية منتقاة – كما سيأتي - والوقت مختار بدقة، والمكان مناسب لاستيعاب الحدث، كان المكان مناسباً لهدى شعراوي، فمصر وقتها كانت تحت الاحتلال الإنجليزي مما يعني وجود التضييق على العلماء وكبتهم، وفتح الباب لحركات التغريب، وكذلك كان المكان مناسباً لأمينة ودود، فهي في أمريكا أرض الانحلال والتمرد على كل شيء، والوقت مناسب تماماً، حيث اشتدت الحرب على الإسلام من كل جانب، وتتزعم أمريكا حرب الإسلام، وتؤيد وتدعم تيارات التغريب، وتسعى لتغيير الشريعة وتحريفها بشتى الوسائل. أما موضوع القضية وهو مساواة المرأة بالرجل في التكاليف الشرعية – وهذا من أشد ما في الحدث من جوانب خطيرة- ، فقد تم اختيار قضية خطيرة جداً، لها جوانب عديدة وكأنهم يريدون - كما يقال - ضرب عصفورين بحجر واحد، فلماذا تم اختيار هذه القضية؟ إذا سلطنا الضوء على الآثار المترتبة على هذه القضية؛ سيظهر لنا لماذا تم اختيارها، ولنعرض تلك الآثار فيما يأتي: أولاً: في جانب الدليل الشرعي: هذا العبث سيؤثر تأثيراً خطيراً في نفوس بعض الناس في مكانة الدليل الشرعي الذي يُبنى عليه الدين، ويجرئ أصحاب الأهواء على التلاعب به، فمهما جئت لهم بعدها مثلاً بدليل صحيح قوي الدلالة أجمعت عليه الأمة فلن يكون له صدى في قلوبهم، ولن يردعهم عن باطل وقعوا فيه، كما فعلت هذه المرأة، حيث: - عبثت بالنصوص الشرعية، فأعملت منها ما ظنته يوافق هواها، وتركت وأبطلت العمل بما لا يخدم رأيها. - أهدرت قيمة علوم الاستنباط وقواعده التي هي آلة استنباط الأحكام الشرعية، فما توصلت إليه لا علاقة له بأصول الفقه؛ مما يجرئ غيرها على تفسير النصوص بالهوى دون ضابط ولا قواعد. - خلطت وأضاعت مراتب الاستدلال، وأهدرت قوة الدليل من حيث صحته، ومن حيث دلالته. - استهترت بمكانة العلماء، وأقوالهم، حيث انفردت بأفكارها، وشذت بها عن عموم المسلمين، ولم تحسب لعلماء الأمة أو لمجامع العلم حساباً، ولم تعرض أفكارها على من هم أعلم منها. ثانياً: في جانب تغريب المرأة: فهذه الخطوة جاءت هذه المرة كبيرة وواسعة، ستختصر لو أصروا عليها خطوات وجولات كثيرة كانوا لا يحلمون بإنجازها؛ لأن العائق الأكبر أمامهم هو الدليل الشرعي وهيبته في النفوس وهيبة العلماء ومجامع الفقه والعلم، فحين تأتي خطوة تحطم ذلك مرة واحدة وتزيحه من أمام مخططاتهم فسوف توفر الكثير من الوقت والعمل؛ لأن ما بعد ذلك أمره سهل؛ لأنها ستكون مجرد عادات وتقاليد، يكفي لتغييرها بعض البرامج والأغاني والفيديو كليب والأفلام والأقلام. وما داموا قد حققوا مخططاتهم في العبادات، فتحقيقها في غيرها من جوانب الحياة سيكون سهلاً. ثالثاً: في جانب تأصيل هذا التيار التغريبي وتوسيعه: فهذه الخطوة لا شك ستؤدي إلى توليد دافع حركي كبير في نفوس أتباع هذا التيار في بلاد المسلمين، مما يعني وجود احتمال - بدعم أو بغير دعم - لتكرار ما حدث في أمريكا، ولا شك أن ذلك سيسبقه دراسة للمكان والزمان حتى تنجح المحاولة وتنتشر، بمعنى أن يتم اختيار الدول التي غلب فيها التوجه العلماني لضمان وجود الحماية والتأييد من الجهات المشابهة. مناقشة سريعة: ما علاقة العلم بارتداء المرأة للحجاب الإسلامي، وبعدها عن الاختلاط بالرجال؟! وما الذي يمنع أن تتعلم المرأة فتكون أستاذة أو دكتورة أو مفكرة أو أديبة وهي ترتدي الحجاب وتتمسك بأحكام الشريعة الإسلامية! كما هو واقع كثير من المسلمات الفاضلات في هذا العصر، وهل عدمت القرون الماضية في بلاد الإسلام وجود العالمات والأديبات والشاعرات والحافظات لكتاب الله _تعالى_ وهن يرتدين الحجاب ويلتزمن بأحكام دينهم! إنها – دعوى تحرير المرأة من الحجاب- إذن دعوى باطلة وخدعة لن يقع فيها المسلمون _بإذن الله تعالى_. إن وجود ظلم للمرأة (ولا أعني ما يقصدونه زوراً وبهتاناً من ارتداء المرأة للحجاب وبعدها عن الاختلاط) في المجتمعات المسلمة ليس سببه شريعة الإسلام؛ لأن الإسلام دين الحق والعدل، ولا نحتاج إلى أن ندافع عنه بالقول: إنه أنصف المرأة؛ لأن من رضي بالإسلام ديناً لم يحتج عموماً إلى إثبات هذه البديهية الواضحة، وإن احتاج بعض الناس إلى التذكير بها وبيانها. أما وجود ظلم للمرأة في مجتمعات المسلمين، فهو كما يقع بالمرأة قد يقع بغيرها، كما يحدث في غيرها من المجتمعات البشرية، وهذا من فعل البشر وتقصيرهم، ومن ثم فعلاج الظلم لا يكون بهدم الشريعة، وتحطيم قواعدها، وإهدار أقوال العلماء، وإعلان المعارك والحروب على المجتمع؛ لأن من يفعل ذلك فأحسن ما يوصف به أنه جاهل، وإلا فهو متغرب يسعى لتغريب المجتمع أو مجنون يعبث بهويته وقيمه ومجتمعه. وإنما يكون علاج المشكلات بالدراسة والبحث وتقديم الحلول المبنية على الشرع، كما يحدث في كل مشكلة أو أزمة يواجهها المجتمع. علاج كل ظلم هو اتباع أحكام الإسلام والتمسك بها؛ لأنه هو العدل الذي لا عدل بعده، قال _تعالى_: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (الأنعام: 115)، قال في التفسير الميسر: "وتمت كلمة ربك -وهي القرآن- صدقًا في الأخبار والأقوال، وعدلاً في الأحكام، فلا يستطيع أحد أن يبدِّل كلماته الكاملة، والله _تعالى_ هو السميع لما يقول عباده، العليم بظواهر أمورهم وبواطنها" . وقال _سبحانه_: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" النحل: 89. وقال _عز وجل_: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " (الزخرف: 43). ولماذا لا يدافع هؤلاء عن حق المرأة في ارتداء الحجاب، ولو من باب وصفه بالحرية الشخصية، وذلك حين تمنع المسلمات المحجبات من حقهن في التعليم والتوظيف كما في تركيا، أو يمنعن أو يضيق عليهن في الكليات والمؤسسات والتوظيف كما في بعض البلاد العربية وغيرها، ويمكنك أن تراجع أمثلة كثيرة من الظلم الواقع المستمر بحق المرأة الملتزمة الحجاب، ومن أشهر ذلك المرأة التي طردت من البرلمان التركي لارتدائها الحجاب، والمرأة التي فصلت من وظيفتها في شركة طيران عربية لتمسكها بتغطية شعرها، والمستبعدات من ممارسة التدريس؛ لأنهن يرتدين الحجاب، وتمارس عليهن الضغوط والتهديدات الأمنية وغير ذلك من الظلم. لماذا لا ينادون برفعه عن المرأة المسلمة التي تريد التمسك بدينها لو كانوا صادقين في دعوى رفع الظلم؟! خطوات عملية في المواجهة: تيار التغريب أخذ يشتد في حربه لتعاليم الإسلام وأحكامه، مستغلين ضعف الأمة، والأوقات الحرجة التي تمر بها، وهوانها أمام عدوها، وسهولة التواصل والتأثير في الناس عبر وسائل الإعلام المفتوحة لهم ليل نهار، لذا فمواجهته لا يجدي فيها الاكتفاء بإصدار البيانات، وإنما تحتاج المواجهة إلى دراسات وبحوث، ومؤتمرات، لاتخاذ الأساليب المناسبة لاستئصال هذا الورم الخبيث من الأمة؛ لأنهم يرونها معركة يخوضونها ويتخذون لها أسباب القوة، خذ مثلاً كتاباً صدر في مصر، وطبع في سلسلة كتاب الأسرة واسعة الانتشار عام 2004م، باسم (معركة المرأة المصرية للخروج من عصر الحريم)، وهو مجموعة مقالات جمعتها المؤلفة مما نشر عبر منذ بدء حركة تغريب المرأة المسلمة تدعو كلها إلى تغريب المرأة، تقول إحداهن في مقال بعنوان (المساواة)، نشر سنة 1946م: (المساواة حق للمرأة …ولا يمكن الحصول على هذه الحقوق إلا بالقوة . إن الغاصب لا يفكر في رد الحقوق المغتصبة، فيجب أن نأخذها بالقوة…)، وهذا التيار يستند اليوم واقعياً إلى القوة، عبر استغلال الضغوط الخارجية التي تمارس على الدول الإسلامية لتغيير مناهج التعليم، وتعديل قوانين الأحوال الشخصية، وتعديل أحكام الختان والتبني والحضانة وحرية الانحلال... إلخ. فأرى أن تكون هناك أمام الباطل وقفة حق قوية يسمع بها الداني والقاصي – كما سمع بباطل تلك المرأة وغيرها الداني والقاصي - على المستوى الرسمي وغير الرسمي للمؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، مع إبراز موقف المسلمات العالمات المتخصصات في علوم الشريعة، يبين فيها موقف الأمة مما فعلته هذه المرأة من ضلال، ويحذر من فعلها، ويبين موقف الأمة من تيارات التغريب التي تهدف إلى مسخ المرأة المسلمة، ويكشف حقيقة أهدافها التي يغلفونها بأغلفة براقة، ليرتدع كل من تسول له نفسه العبث بالدين، ويعلم أن الأمة وإن ضعفت قوتها حيناً فهي قوية في دينها، معتزة بقيمها، مستمسكة بشريعة ربها.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon