يستسهلون الكتابة ويستصعبون القراءة

وهؤلاء كثيرون، بل إنهم أكثر مما تتصور أيها القارئ الكريم.

ولا أشك في أنك تميز مقالة من أخرى، أو كاتباً من آخر، وتدرك أن ثمة مادة مكتوبة، تنبئ عن ذلك المخزون الثقافي الكبير الذي تستند إليه وتمتح منه، وأن مادة أخرى، مكتوبة لمجرد أن صاحبها يريد أن يكتب، ويرى اسمه مطبوعاً في صحيفة أو مجلة، وربما على غلاف كتاب، دون أن يكون قد اختزن من بحر الثقافة إلا النزر اليسير، أو دون أن يكون على دراية بالموضوع الذي يكتب فيه، فتحسّ، أيها القارئ الكريم، أنه يهرف بما لا يعرف، وتندم على إضاعة الوقت وإرهاق البصر والأعصاب بقراءة ما لا ينفع. ولا تستطيع في هذه الحال أن تقول عما تقرأ: إذا لم ينفع فإنه لا يضرّ. فالضرر واقع لا في هدر الوقت والجهد فقط، بل في تشويش العقل أيضاً، وإرهاقه بمعلومة لا صحة لها أحياناً.

وإذا كان للمعلومات الخاطئة والفِكَر الرديئة الرخيصة جانب إيجابي، وهو تعزيز القناعة بنقيضها الصحيح الثمين، فإن لها جانباً سلبياً، هو العبث بعقل القارئ وتفكيره، إنها كالطفيليات والعوالق التي تخدش وتخرّب وتربك، ولا سيما حين يكون القارئ حديث العهد أو قليل الإلمام بالموضوع الذي تتناوله المادة الضحلة الضعيفة.

أما القارئ المتابع المتمرّس بالقراءة، فإن له من خبرته وثقافته ما يعصمه ويحميه، وما يمكّنه من تمييز القوي من الضعيف، والعميق من الضحل، والجديد من المكرّر المستعاد.

القارئ الحسّاس اللمّاح يملك جملة من المؤشرات، تجعله يعرف ما إذا كان الكاتب ضحل المعرفة في الموضوع الذي يتناوله، وغير ذي بنية ثقافية مكينة. ولعل أول هذه المؤشرات هي أن الكاتب المثقف الجاد يتجنب إطلاق الأحلام القاطعة الحاسمة، ويترك الأمور التي يصل إليها مفتوحة على احتمالات متعددة، وحين يطلق حكماً، فإنه يكون قد قلّب الأمر على كل وجوهه، وغاص في أعماقه، وتلمّس حذافيره وخفاياه، ومع ذلك، فإنه يطرح حكمه على أنه استنتاجه الخاص، ولا يقدمه بوصفه صواباً مطلقاً لا يقبل الطعن أو التغيير.

هذا المؤشر هام جداً، لأن الكاتب الضحل يسرع في إطلاق أحكامه القاطعة، لسبب بسيط، هو أنه يحمل هذا الحكم قبل أن يكتب، وقبل أن يبحث ويفكر، وما كتب إلا لغاية محددة هي إطلاق حكمه ورمي فكرته في مرمى الآخرين، الذين يتصورهم مثله، عاجزين عن تمييز الغثّ من الثمين.

أما المؤشر الثاني، فهو أن الكاتب الجاد يتسلح بمبدأ الشك المعرفي، فلا يسلّم بما يسمى بالثوابت، وما من ثوابت لديه إلا ما يؤكده البحث العميق، وهو لا يطرحها بوصفها ثوابت دائمة مطلقة، بل يأخذ بها إلى أن يُبطلها الواقع والبحث. أما الكاتب الضحل فإن عقله مليء بالثوابت والموروثات، يكررها ويستند إليها، فتنحصر كتابته في تفسير ما قاله غيره، ويظل حذراً تجاه أي جديد، بل إنه غير مؤهّل لتوليد فكرة جديدة، لأنه يُسقط الواقع والفكر في شباك منسوجة محكمة لا تسمح بالحركة والخروج من الأطر التقليدية.

أمثال هذا الكاتب موجودون في مختلف التيارات والمذاهب الفكرية، ويعرفهم القارئ المتمرس لأنهم يصفعونه بالاستشهادات والنصوص المقتبسة والفِكَر المسبقة. إنهم يتكلمون بلغة الشعارات، ويكتفون بالدوران حول المبادئ والعموميات، دون أن تكون لهم صلة بالحياة، أو دون أن تكون لهم معرفة واسعة بالفكر الذي يعلنون تبنيه والتسلّح به، وهذه هي الطامة الكبرى.

الكاتب المثقف الجاد هو قارئ بالدرجة الأولى، يقرأ كثيراً ليكتب قليلاً، فالكتابة إن لم تنبثق من فضاء معرفي واسع ومتنوع، لا يمكن أن تكون ثمينة، بل تظل تدور في إطار التأمل والتكرار في أحس الأحوال، فالضحالة المعرفية لا تقدم معرفة، والعقل الأحادي المصنوع سلفاً والمكبّل بالشعارات والثوابت لا يمكن أن يثمر.

وإذا كان الواقع دائم الحيوية والحركة والتبدل، وإذا كان التاريخ هو حصيلة تلك الحركة وذلك التبدل، فإن الفكر الجامد الذي ينظر إليه حاملوه على أنه جملة من المبادئ والثوابت، سيصبح خارج التاريخ، ويفقد قدرته على التأثير في الواقع والعقول.

لذلك، فإن طرح التساؤلات المعرفية والانطلاق من جدل الفكر والواقع، والفكر والفكر، هما من مؤشرات العمق الفكري، الذي يتوخاه القارئ فيما يقرأ.

أيها القارئ الكريم، أيها الكاتب المتسرّع، لعلنا نقتنع معاً بأن الثراء الثقافي والمعرفي شرط للكتابة الجادة النافعة، وأن الفقر المعرفي هو منبع الكتابة الضحلة الرديئة.


20/4/2005

جريدة النور

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon