ولادة واسم..

من رحيل دام تسع شهور داخل رحم أمي الممتلئ بالدفء ومن أعماقها البعيدة عن صخب الحياة، داخل كوكبة من الشرايين والأوردة التي تحمل إليّ غذائي ومكتنفاتي كي أصبح أقوى...

خاص: نساء سورية

من رحيل دام تسع شهور داخل رحم أمي الممتلئ بالدفء ومن أعماقها البعيدة عن صخب الحياة، داخل كوكبة من الشرايين والأوردة التي تحمل إليّ غذائي ومكتنفاتي كي أصبح أقوى، وكي يمتلئ نسيجي وتصبح عضويته متكاملة فيما بينها، داخل هذا الرحم الذي احتضنني كنت أكتسب مع الأيام شيئا فشيئا بعضا من صفات أمي التي لطالما شعرت بدموعها وارتويت منها، فتلك كانت الوقفة الوحيدة في حياتي التي تضعني دائما على بداية الطريق من جديد، لأحس دائما بأنني لا أولد إلا من دموعها،
فهي.. عندما انبثقت تبكي ذات ليل، كانت صرختي الأولى.. على عكس الناس..
كانت ولادتي.. وبمؤامرة خفية من القدر مع الأيام رسم بداية الحياة فاختارني لتكون البداية مختلفة أو بالأجدر أن أقول معاكسة لكل الأقدار .. البداية الأولى في أني ولدت على عكس الأطفال ما يولدون، بحالة استثناء وقعتها الملائكة كي أبقى على قيد الحياة رغما من بدايتي المعاكسة لكل الأرواح..
لحظات ألم وصرخات خافتة لامرأة أخافها ذلك القدر المنافي لولاداتها الثمانية السابقة، دقات قلب متسارعة ولهاث مع مزيج من الأنين المتواصل وصوت امرأة أخرى تساعدها على إخراجي من تلك المتاهة الصعبة.. إلى أن شاء الله أن أستنشق ذرات الهواء الأولى في حياتي والممتلئة بأنفاس أمي وعبق رائحتها التي ما زالت تسكنني حتى هذه اللحظات، أصرخ دون ترد وبكل ما أوتيت من عزم بعد ساعات الألم السابق لأستقبل حياتا لا أعلم كم من الصعوبات قد تسبقني إلى أجزائها..
تحضنني بين ذراعيها وتلفني بعمق وحنان وكأنها تحتضن وليدها الأول، و أرتوي يوما بعد يوم بحليبها المعتق داخل أنسجة الحياة والأمل والمحبة، وهم ثمانية من حولي أراهم وأكبر بين أحضانهم وهم يحملونني بنشوة الشوق وفرحة اللقاء الأول لطفلة لا تكاد تُعرف معالمها.. وأبي لم أكن أعرف حتما إن سكنه الفرح أو الذهول، ليقرر ساكنا وصامتا في اليوم التالي أن يعطيني اسما اختاره هو دون أي اعتبار لأحد سواه...
وأكبر سنة بعد سنة وأنا في حالة غرق مع الحروف والمعاني وأبحث عن معنى لاسم أسكنه والدي بطاقتي أبدا.. لأعلم فيما بعد أن الحروف صاغت اسمي دون تردد لتجمع من الحياة أعمقها وأعظمها، وتتناثر الحروف لترسم صورة لاسم مجرد من التناسي..
فأوله من قطرات الغيث ونعمة الحياة، و ثانيه من احتراق الجمر ولهيب الأمل الساطع منه، وأوسطه من ذرات حملت بين أجزائها آلاف الأشجار والزهور، ورابعه من نسيم استنشقته ملايين الأرواح لحظة ولادتها، وآخره من رحم احتضن ملايين الناس بين ذراعيه وأسكنها بين سهولها وهضابها.. فكيف لي ألا أعشق تفاصيل الحياة بأكملها ب مائها ونارها وترابها وهوائها وأرضها.. وهي التي ترسم أجمل معالم اسمي الذي اختاره والدي دونما إرادة مسبقة ليعطيني فيما بعد أملا باستعادة الحياة من جديد.


  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon