اللون الأخضر

 خاص: نساء سورية 

السؤال والجواب صراعات دائرة دموية بين عالمين، الأول يجوب الـ"كيف" والـ"لماذا" متباهياً بالاستفهام، والثاني يتغزل بالنقطة في نهاية الجمل.

تعبيرٌ عن توقف أو شبه استمرار لاستنساخ عوالم معطرة بإشراقات من مخارج الحروف، فكم من كياناتٍ علقت على مشجب الاستفهام؟ وكم من جملٍ نحر سيف النقطة عناقيدها.
كثيرةٌ هي الأسباب التي تدوم فترة أطول من السماء التي ترسم عليها أشرعة الحلم انطباعات أوسع من سؤال وأضيق من إجابة، تشرق من تأرجح الآن والآتي وتتصاعد مع أبخرة نجومٍ مترامية الحداد.
في لحظة سطوع البرد وتجلي عصوره الجليدية، غطت أفكاري في كهوفٍ سحيقة لايوقظها إلا صراخ الخفافيش المتدلية من ظلالٍ متعطشة للوحل الذي يرقص /الفالس/ بين ذراعيَّ، وأنا أتدلى من ساعةٍ تدق عقاربها على مراكز اللاشعور والنهايات العصبية كل دقيقة ستين أنثى مشرعة على آلاف الأميال من الجثث.
تنتهي إلى تقمصٍ آخر لي على الجدار المقابل لطاولة المكتب، انتصبَ داخل إطار خشبي مشغول بالإبرة كأنه حورية خرجت إلى الصخور الناتئة لتجفف جسدها من دموع البحر، تتحسس بأناملها آثار أقدام متعرجة.. مترافقة مع طقوس للحواس العارية.
هذا التمظهر انبثق في قاعةٍ مترفة من أروقة السوربون واللجنة المشرفة تناقش لسويعات أطروحة دكتوراه تتمحور حول (بربرية الشرق في النصف الثاني من القرن العشرين ومايليه).
رافقه اتساع الجسد بانتفاخات أنثى أخرى، تتقد غيرةً من سحرٍ انجرف على ما يحويه من خصوبة وحمى شوكية، لكن تواضعه بابتسامة منمقة أزالت أسوار الصيف، فازداد الطلاء الأخضر للجدران رونقاً، يثور بالعقود الخالية ويكتسح عائلةً عشقت هذا اللون .
لم يبق منها سوى شاربي جدي المطليين بزيت الزيتون وهو في عقده الثاني وفرسٍ أصيلةٍ مع بساطٍ نيساني افترش أرضية الإسطبل، متمنياً لها جموحاً مدبباً كنصلٍ في خاصرة السهوب والغابات الوحشية.
نشبت أحلامها في حقل قمح ذهبي هدم آخر سماء ملبدة بالصواعق، مزقه يومٌ أخضرٌ جاء من نعال أحذيةٍ تفوح بخمرة الأزمنة المظلمة، مكللاً سواعده المفتولة ببتر ثلاث قوائم من هذه الأصيلة كإجراءٍ اتخذته لجنة مكافحة التبذير التي تبنت شعار (الله لايحب المبذرين) والاكتفاء بساقٍ واحدة، لتوزع بقية السيقان بالتساوي على أمهاتٍ مرضعات بقيت أثداؤهن مذهولة لغياب صغارهنَ عن حلماتٍ، قذفت بفقاقيع الحليب في نزهة البحث عن ضفائرهم الملقاة على ضفاف نهر الدم العاري من تاريخ ميلاده، لتعود بأجسادٍ رضيعة شوهتها ساحات القتال التي اجتاحت الخلايا، مكرهين باسم كسرة الخبز وحبات زيتونٍ، أغرقت أفواههم بجوعٍ للجري المسعور وراء شعرةٍ قصمت ظهر البعير.
هذه الفرس أعادت بناء صهيلها وطفقت تجري في الريح ولحاء الشجر، ممتزجةً بتجاعيد الروح وذكرياتٍ سلالية تموج في زهايمر جدي، انسابت داخل نجوى دفينة إلى ضوء الشمس، دفعت به إلى العدو و الوثب الطويل لينال ميدالياتٍ ذهبية.
قفز ذات مرةٍ مع مزهريات الأفق والتراب إلى السحب السائرة ليتأمل الشعلة الأولمبية وهي تلتهم القارات الواحدة تلو الأخرى، صيحات اللهب اختلطت بصيحات الحنين لتشعره بعقدة الحرمان من اللون الأخضر، فهطل في ليلةٍ مرسومة على مرآة شتاءٍ، أذبل كافة الشموع وامتزج مع الطين المجبول بالعصافير المقفلة الأجنحة، وغدا شجرة ليمونٍ معطاءة اقتاتت عليها العائلة ليلاً بعد ليل، إلى أن حلَّ يومٌ أخضرٌ أخر متبرجاً بشعار (الشجرة التي لاتفيء حلالٌ قطعها).
تحت صهد شمسٍ تزغرد للأحذية السوداء السامقة حتى الركبتين، أقيم كرنفالاً أسطورياً احتفاءً بهذا اليوم، امتد على ولائم عامرة ببذاتٍ خاكية مزدانة بأوسمة شرفٍ للعار وسيناريوهات للتطهير، كان مسكُ ختامه دفقاتٍ من أحواض الخمر مع الأهازيج وإيقاعات الفلكلور التي رافقت طقوس اقتلاع الشجرة مع هسيس أغصانها، بذريعة توسيع الطريق لتمر بسلام أرتال (المارسيدس) المتخمة بنصرٍ مؤزر على الأعداء المنظورين منهم وغير المنظورين، الذين تهافتوا صرعى على أعتاب رائحة أوراقٍ خضراء مصفوفة كالبنيان المرصوص، نامت قريرة العين في صناديقها الخلفية، المحمية من شر حاسدٍ إذا حسد بواسطة (الغرين كارد) وكواتم الصوت وزوار خيوط الفجر الأولى.
  أما عجلاتها المكتنزة فهي معفرةٌ بدماءٍ مرصعة بليلة زفافها على الذئاب وأوردة عوائها تنضح بجسد البحر الموسوم بلسعات السياط الكهربائية وأعقاب السجائر.
  حيث اقتيدت تلك الدماء من نهديها تحت عويل استباحة فستانها الأبيض، وفضت بكارتها الخضراء لثلاثة أيام وثلاث ليالٍ على فوهات وأعقاب البنادق الأتوماتيكية، داخل جحورٍ عميقة تهطل فيها الرأفة بالحيوانات المهددة بالانقراض عند تمام الساعة الخامسة والعشرين.
  بعد الانتهاء من طقوس التطهير والتعليق من الأذناب الطويلة الملتفة حول سيجارة (ماري البورو) مهربة، متوقدة في عتمةٍ رطبة بين شفتين غليظتين تضجان بضحكة عاهرات الحرير و الملاءات اللازوردية.
  لم يبق أمام الدماء الحبلى عنوةً بيخضور الضباع والخنازير الصاعدة من بحر الظلمات غير امتهان العهر القسري في فيلمٍ سينمائي طويل، امتد بسوريالية لسانه المشروم حتى نهاية التاريخ العربي، يخرجه ببراعة اللون الأخضر.
- تمت بعون الله تعالى-

اللاذقية 24/1/2.. 4
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon