بين الثقافة الإسلامية وثقافة حقوق الإنسان

لقد ساهمت عوامل تاريخية عديدة في بلورة مفاهيم حقوق الإنسان، منها ما يعود إلى الفلاسفة والمفكرين، ومنها ما يعود إلى نتاج بعض الثورات،

ومنها ما يعود إلى الفكر الديني، وكل ذلك أتى في سياق ضرورة تاريخية لانبثاق مفاهيم تمثل خلاصة تجربة إنسانية مديدة التاريخ، بعد أشواط طويلة من الحروب والجرائم والكوارث اللاإنسانية.
إن البصمة التي وضعها الفكر الإسلامي على روح حقوق الإنسان واضحة، وهو بذلك يشارك جميع الحضارات في ولادة المفاهيم المعاصرة.
رغم هذا، ورغم ما يحمله التراث الإسلامي من مصطلحات إنسانية وأحكام أخلاقية والتي من شأنها احترام الإنسان وحقوقه/ الفردية، الجماعية/، فإننا نشهد اليوم الكثير من التشنجات والحساسيات المفرطة من قبل الكثير من التيارات الإسلامية الأصولية،  تجاه منظومة حقوق الإنسان على اعتبارها تخل عن الهوية وخروجا عن المقدسات.
إن ما يمثل وراء هذه النظرة تجاه منظومة حقوق الإنسان، هو التعصب والتشدد واللامنطقية، وهذا ما يناقض روح الفكر الإسلامي المعنى بالمرونة ومحاكاة العقل واحترام جدلية التاريخ.
لقد جاءت الشرائع والرسالات بهدف أساسي، هو حفظ حقوق الناس، وأتى ذلك إما عن طريق تحديد هذه الحقوق ، وإما الارتقاء بوعي البشر حتى  يصبحوا قادرين على سن هذه الحقوق، وإطلاق قيم أخلاقية تتناسب وتتساوى مع جميع البشر، وهذا ما يكسب منظومة حقوق الإنسان بعدها العالمي، فهي تمثل ركيزة حقوقية إنسانية يتم بموجبها موازنة الخصوصيات الحقوقية في الثقافات المتعددة، بهدف معرفة مدى تطابقها أو تعارضها، أي أنها القاسم الحقوقي المشترك بين جميع الشعوب.
لقد مر الفكر الإسلامي بمراحل عديدة لم يتوقف فيها عن محاكاة الواقع، والسعي لإصدار أحكام عقلانية مواكبة للتغييرات البيئية المحيطة به، وقد ساهم العديد من رجال الفكر الإسلامي في تدعيم عقلنة التعامل مع النص، رافضين بذلك تعميم الحالة الخاصة المتعلقة بالظروف المحيطة ببعض الأحكام، إلا أننا نشهد اليوم العديد من المواقف والرؤى والسنن ذات الطابع الشمولي المتحجر، والرافض لجميع المفاهيم التي لم تكن إنتاجا إسلاميا بحتا "حرصا" منهم علىعدم ضياع "الهوية الإسلامية"، ومن جملة هذه المفاهيم مفهوم حقوق الإنسان.
إن التذرع بالخصوصية الثقافية وامتلاك الحقيقة المطلقة، هو دليل على عقم الأداء والفكر، فالخصوصية تبدأ وتنتهي بالانغلاق والغياب عن ساحة التفاعل.
إن "إشكالية" الإسلام وحقوق الإنسان هي إشكالية معظم التيارات الإسلامية، تلك التي تقول بمحورية الشريعة لا العقل في حياة المسلم، فالإسلام هو دين حقوق الإنسان ولكن من وجهة نظر الشريعة، ومن هذا المنظور تعمل هذه التيارات على قولبة مفهوم حقوق الإنسان بمعنى: النظر إلى حقوق الفرد من زاوية الالتزام الديني، وهذا ما يبرر الخلاف الحاصل بين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان /10-ديسمبر-كانون الثاني-1948/ والإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان /يوليو-تموز-1990/ من حيث:
المساواة الكاملة بين المرأة والرجل مقابل المساواة المجتزأة بينهما.
الأهلية القانونية للإنسان والأهلية الشرعية له.
حرية المعتقد والدين، مقابل رفض الحرية الدينية.
حرية التعبير مقيدة بعدم التعارض مع مبادئ الشريعة.
لا بد لحقوق الإنسان كي تتعزز وتتأصل في ثقافة ما أن يتوفر لها المناخ المناسب والتي تشكل الحريات العامة طقوسه الخاصة،  فإذا استطعنا تلخيص هذه الحريات إلى حرية الاعتقاد- حرية الرأي- حرية التملك- الحرية الشخصية، وتمعنا النظر في شمولية "ثقافة التأويل الإسلامي" والتي تشكل مرجعية للكثير من التيارات المتحجرة، فإننا سنجد هذه الحريات مقيدة بإطار"تأويلات إسلامية" والتي تتشارك في صلاحيتها الزمانية والمكانية للنص، وهذه التأويلات تفتقد إلى الكثير من العقلانية والمرونة، وتجعلها على تناقض دائم مع هذه الحريات، فلا حرية معتقد "المرتد يُستتاب، فإذا رفض يُقتل" وإن حرية الرأي يجب أن تأتي كما يراها هذا التأويل ذاته، وحرية التملك لا تكون إلا ضمن أسباب "التملك الشرعية"، وبالانتقال إلى الحرية الشخصية فإن "المسلم" مقيد بما يراه "الشرع" ناهيك عن مغالطة مفهوم الحرية – كمفهوم عام- والمضاد أصلا لمفهوم العبودية.
إن العمل الدؤوب لبعض الجماعات الإسلامية والهادف إلى قولبة معايير حقوق الإنسان هو بحد ذاته متعارض مع عالمية حقوق الإنسان، وهذا يعتبر تعبيرا صريحا على رفض التعامل مع معايير حقوق الإنسان بوصفها مرجعية أخلاقية إنسانية، عالمية، وإصرارا على التعلق بالخصوصية، وتأكيدا على عقم قدرتها على مجاراة الحضارة ومفاهيمها الحديثة.
(الحرية الدينية لا الحرية من الدين) هي ما عبرت عنه منظومة حقوق الإنسان بشكل واضح عن طريق فلسفتها اللادينية من جهة وغير المضادة للدين من جهة ثانية، وهنا وجب التمييز بين ما هو لاديني وبين ما هو ضد الدين.
إن المغالطات القاتلة التي يرتكبها البعض ممن يدعون بأنهم "حملة رسالة" بحق ثقافتنا أدت بهذه الثقافة إلى نتائج كارثية، سواء على الصعيد الداخلي /جمود، انغلاق، تأخر/ أم على الصعيد الخارجي /عزلة، نظرة سلبية/ متناسين ما يحمله التراث الإسلامي من آليات الانفتاح وعقلنة ربط الفكر بالواقع، ومتجاهلين هذه الآليات المثلى  للخروج من أزمة الانغلاق وما لها من دور في إطلاق طاقة الإبداع الإنساني.
إن حقوق الإنسان هي حقوق كل إنسان في كل زمان ومكان بغض النظر عن معتقده ودينه وجنسيته ولونه وانتمائه ومرجعيته، وبهذا الإطار يمكننا أن نسأل الأسئلة التالية: هل بالإمكان طرح ميثاق إسلامي عالمي لحقوق الإنسان؟
 أو ليس للإنسان الحق في الطموح إلى تغيير شروط حياته خارج إطار القراءة الخاطئة بحق الحياة والتقدم وحقوق الإنسان؟.
إن ذلك لا يعني انتهاك حق من يقرؤون هذه القراءة، لكن نطالبهم بعدم فرض قراءتهم، وإتاحة حق الغير في قراءات أخرى، فالنص الديني هو نص مفتوح للقراءات كلها، وهذا الانفتاح ليس جديدا على التاريخ الإسلامي.
إن الماضوية تعالج ما هو حي بما هو لم يعد قائما في الحياة، فلا يمكننا من وجهة نظر العلم والوعي والتاريخ مناقشة الحاضر بسياق الماضي، هذا الماضي الذي مضى وانتهى لكي لا نمثل بنهجنا هذا خروجا واضحا عن نسق العقل والمحاكاة العقلية.



مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon