قضية المرأة، من جميع وجوهها، قضية إنسانية واجتماعية ومجتمعية عامة من الدرجة الأولى، من جهة،
وقضية خاصة تتعلق باضطهاد المرأة وما تتعرض له من أشكال الظلم والاستغلال والقهر والعنف وما تعانيه من أنواع التمييز الجنسي والقانوني في سائر مجالات الحياة، من جهة أخرى. كونها قضية عامة يجعلها قضية الرجال والنساء على قدم المساواة، قضية المجتمع كله، أي قضية أنسنته وعقلنته وعلمنته ودمقرطته وتقدمه. فمن المحال أن يتحدث نصف المجتمع أو يتقدم دون نصفه الآخر. على أنه لا يجوز النظر إلى هذا التقسيم من الزاوية الكمية الخالصة، أو من الزاوية الإحصائية الخالصة، بل من زاوية التكامل الضروري والوحدة الجدلية بين الجنسين؛ لتوكيد حقيقة أن عضوية المرأة في المجتمع والدولة لا تختلف بأي معنى من المعاني عن عضوية الرجل فيهما، وأن مساعي التنمية الاجتماعية يجب أن تتجه إلى تنمية الجنسين على قدم المساواة. والحديث عن حرية الفرد وحقوق الإنسان يجب أن يستبعد الإيحاء الذكوري لعبارتي الفرد والإنسان؛ الإيحاء الذي يجعل الذهن ينصرف إلى أن حرية الفرد تعني حرية الرجل، وحقوق الإنسان تعني حقوق الرجل، بحكم صيغة التذكير الظاهرة للكلمتين، وكذلك في كلمة المواطن وغيرها، فاللغة تحمل سمات المجتمع الذي أنتجها، ويعيد إنتاجها، وتنم على خصائصة الذهنية النفسية. وإن للكلمات سحرها ومكرها؛ إذ تختزن كل منها تاريخها الدلالي والقيمي وتفرضه على السامع والقارئ. لا يكفي أن نقول: إن المرأة هي نصف المجتمع، في حين هي مربيته ومعلمته. وكونها قضية خاصة يجعلها قضية النساء، في سعيهن إلى التحرر والمساواة، مقدمة لا بد منها للحرية التي ترقى بقضية المرأة إلى الصعيد العام، بصفتها ركناً أساسياً من أركان المشروع النهضوي الممكن والواجب. ولا فصل ميكانيكياً بين العام والخاص؛ فليس للأول من وجود فعلي إلا في الثاني، وليس للثاني من معنى أو من قيمة إلا في نطاق الأول. ذلك أن كل مكسب تحرزه المرأة في سعيها إلى التحرر إنما تهديه للمجتمع؛ مما يعني أن قضية المرأة لن تحسم في نهاية الأمر إلا على صعيد المجتمع ونظامه العام وشكل وجوده القانوني والسياسي. وهذه العلاقة الجدلية بين مستويي القضية العام والخاص تتأسس وتتجلى في العلاقة النوعية بين المرأة والرجل، أعني العلاقة الجنسية الأكثر حميمية التي يعيد بها الجنس إنتاج وجوده الاجتماعي، ولذلك سميت علاقة جنسية؛ وهذا ما يرقى بها عن أي شكل من أشكال الابتذال أو الإسفاف. وقضية المرأة قضية تاريخية تضرب جذورها عميقاً في حياة الجماعة البشرية إلى الزمن الذي ظهرت فيه الملكية الخاصة، على الأرجح، وظهر معها الاستلاب واستغلال الإنسان للإنسان. وما يجعلنا نميل إلى ترجيح ذلك أن المرأة لا تزال تعامل على أنها ملكية خاصة للرجل، شأنها شأن ما كان يملكه الرجل من عبيد وإماء. بل نكاد نقول إنها الأثر المتبقي من النظام العبودي القديم، والمتخفي في ثنايا النظام العبودي الجديد الذي رفع الملكية الخاصة إلى مصاف المقدسات، بل جعلها المقدس الوحيد في الواقع الفعلي، وفصلها عن المجتمع، ثم عن العائلة. ويتجلى ذلك الجذر العبودي في الثقافة السائدة على الصعيد العالمي، ولا سيما في المجتمعات المتأخرة كمجتمعاتنا، حيث ما تزال وضعية المرأة في هذه المجتمعات أقرب إلى ما كانت عليه في الماضي البعيد. ومن الصعب أن يجد المرء تفسيراً آخر لاستمرار دونية المرأة وتبعيتها للرجل غير نتوج العلاقات والقيم الاجتماعية عن شكل الملكية، بل عن نمط الإنتاج الاجتماعي الذي يتحدد بها، أعني إنتاج الثروات المادية والروحية على السواء؛ لأن كل إنتاج هو تملك، بالمعنى ذاته لقولنا: كل إنتاج هو استهلاك. ومن ثم فإن الإنتاج هو شكل تملك الإنسان للعالم مادياً وروحياً. ويندرج في هذا السياق إنتاج البشر لوجودهم الاجتماعي وعلاقاتهم الاجتماعية، وفي مركزها العلاقات الجنسية، ولنسمها العلاقات النوعية، لاستبعاد الإيحاء الشائع والمبتذل غالباً لـ "الجنس". أليست المرأة المالكة وسيلة إنتاج عيشها، أو وسيلة إنتاج بوجه عام أكثر تحرراً، ولا أقول حرية، من غير المالكة؟ والتحرر هو السبيل إلى الحرية. في أساس جميع العلاقات الاجتماعية والإنسانية تقبع العلاقة النوعية بين الجنسين، وهذه العلاقة هي الحب بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معان. فقد وضع أريك فروم مقولة الحب تحت مقولة التملك، ومقولة التملك تحت مقولة الاستهلاك، لتغدو مقولة الحب تحت مقولة الاستهلاك؛ فكانت النتائج التي وصل إليها أقرب إلى تفسير العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمعات الغربية وتسويغها. ويبدو لي أنه انطلق من مقدمة خاطئة جعلته يعطل العلاقة الجدلية بين الإنتاج والاستهلاك[1]. وأظن أن الوضع الصحيح للمسالة هو أن نضع مقولة الحب تحت مقولة الإنتاج التي تعرِّف مقولة التملك ومقولة الاستهلاك؛ وإلا فسوف نصل إلى نتيجة مؤداها أن العلاقات الاجتماعية القائمة اليوم تتسق ومنطق الضرورة العقلية. والأمر ليس كذلك، فكل ما هو واقعي عقلاني، ولكن كل ما هو عقلاني واقعي أيضاً، بحسب الفيلسوف الألماني الكبير هيغل. العلاقات الاجتماعية القائمة عقلانية بالطبع، لأنها ممكنات الواقع التي تحققت بالفعل؛ ولكنها تنحو أكثر فأكثر نحو اللاعقلانية المباطنة لكل ما هو عقلاني. وذلك بحكم نمو المعرفة والعمل، بحكم تقدم الوعي ونمو الروح الإنساني، أي بحكم فاعلية العقل نفسه، وهي فاعلية نفي ونفي النفي لا تفتر ولا تتوقف إلا حين يعيش الناس الحاضر بدلالة الماضي، أو حين يحجر الماضي على الحاضر ويمسك الأموات بتلابيب الأحياء فيحددون وعيهم وأنماط سلوكهم. إن ما كان عقلانياً ذات يوم يكف عن كونه كذلك مع تقدم الوعي بصفته الوجود مدركاً، أي مع انبساط الروح الإنساني في العالم وفي التاريخ. في أساس جميع العلاقات الاجتماعية ثمة النقص والاحتياج المتبادل، ومن ثم، الحب بصفته مسعىً دائماً للاكتمال بالآخر، ولإشباع الحاجات الجذرية، في الوقت ذاته. من هذه الزاوية نستطيع تفهُّم عطش كثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين إلى جعل الحب "ديناً إنسانياً". فالحب هو العلاقة الإيجابية الأصلية التي تعكرها التعارضات الناجمة عن شكل الملكية وما تفرضه من تقسيم للعمل وتوزيع للدخل، وما تعيِّنه للأفراد من مواقع اجتماعية متفاوتة تبعث الحسد والكراهية والبغضاء، فضلاً عن التنافس والصراع. فإذا أردنا حلاً أيجابياً وجذرياً لقضية المرأة بما هي قضية المجتمع، يجب أن نؤكد أن الحب هو الأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وهو مبدأ العلاقات الاجتماعية والإنسانية وغايتها. وهذا مبدأ قابل للبناء عليه وغاية جديرة بالسعي إليها. ومن ثم فإن قضية المرأة مفهومة في إطار قضية الحرية والانعتاق أو قضية السعادة، هي هدف في ذاتها، لا وسيلة لهدف آخر كالتقدم مثلاً، آية ذلك أن التقدم يقاس بدرجة تمتع المرأة والرجل على السواء بحريتهما وحقوقهما وليس العكس. في مثل هذا الوضع تندرج قضية المرأة في المشروع النهضوي الذي لا بد أن يتأسس على مبدأ يستمد مشروعيته وقيمته ومسوغاته من ذاته، لا من أي عنصر خارجي، وهذا المبدأ هو حرية الإنسان وانعتاقه وسعادته. ويميل المرء إلى الاعتقاد أن السبب الرئيس لإخفاق محاولات النهوض عندنا هو أن الإنسان لم يكن مبدأها وغايتها، بل ربما نظرت إليه الأيديولوجيات الكبرى على أنه وسيلة لغاية أعظم كالوحدة العربية وتحرير فلسطين، أو بناء الاشتراكية، أو إقامة الدولة الإسلامية. ولذلك كانت قضية المرأة في تلك المحاولات إما نافلة وإما هامشية. وقل مثل ذلك في الثورات الوطنية من أجل الاستقلال. وهنا تحضر بكل ثقلها إشكالية التأخر التاريخي التي تستدعي ثورة معرفية تغير زاوية نظر الإنسان إلى ذاته وإلى العالم؛ والتي تستدعي في سبيل ذلك الاعتراف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بأن تاريخنا جزء من تاريخ العالم، وأن الأمم المتأخرة تتعلم في مدرسة الأمم المتقدمة، وأن ماضي هذه الأمم المتقدمة القريب يمكن أن يكون مستقبلنا القريب. أليس لافتاً للنظر أننا لا نزال إلى اليوم "نستقدم" الأفكار والنظريات دون مبادئها ومناهجها وقيمها، ونستورد التقانات دون الحاضنة المعرفية التي أنتجتها، ونأخذ العلوم الحديثة التي "لا تتعارض مع الدين" من دون أن ندرك أنها فروع مختلفة من شجرة المعرفة، حين نقطع أياً منها عن تلك الشجرة إنما نجفف نسغه ونزهق روحه؟ وفي ظني أن الاستلاب أو الاغتراب أو الضياع، وهي أسماء لمسمى واحد، هو علة ما يشوب العلاقات الاجتماعية، في كل مجتمع على حدة، وما يشوب العلاقات الإنسانية على صعيد العالم، من عناصر تجعل من الإنسان عدو الإنسان، لا تجلي ماهيته. ومن ثم فإن توق الأنا لبلوغ كمالها وتمامها بالآخر قد ترسب في اللاوعي الجمعي محتفظاً بصيغته الفطرية، وأكاد أقول الغريزية، التي تضفي على الحب طابع الشهوة الآثمة، شهوة التملك الأناني أو الاستهلاك النهائي، والاستمتاع الذاتي الفاسق، أو شهوة الافتراس. فالسادية والمازوشية تبطنان العلاقات الإنسانية وتتبادلان المواقع لدى النساء والرجال، في صيغة إيلام متبادل وتبكيت مشترك للذات، على الرغم من كل ما يلابس هذه العلاقات ويغلفها من محايلات وإيهامات. وتلكم هي أهم أسباب التعاسة والشقاء وأعمقها غوراً في حياتنا، ولا سيما الشقاء الجنسي الذي يلف المجتمع، وشقاء المرأة بوجه خاص. مما يضع للسعادة تعريفاً يرادف تعريف الحرية، أعني حذف استلاب الإنسان بأشكاله المقدسة وغير المقدسة. حتى يغدو بوسع أحدنا أن يخاطب من يحب بقوله: يا أنا. في ظل الاستلاب تغدو كل علاقة بين اثنين، أو اثنتين، أو بين رجل وامرأة، علاقة بين غريبين أحدهما عن الآخر وعن ذاته. ولطالما كانت الأشياء والمتع الحسية، متع الاستهلاك النهائي، توسطات ضرورية تحمل دلالات رمزية للحب المفقود. ففي ظل الاستلاب تغدو العلاقات بين الأشياء علاقات اجتماعية وإنسانية، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية الفعلية تغدو علاقات بين أشياء، كما قال كارل ماركس. وفي هذه الحال تتحول منتجات العمل البشري إلى أصنام يقدم لها منتجوها فروض الطاعة والعبادة. وإزاء "صنمية السلعة" تقوم صنمية السلطة، ومنها سلطة الرجال على النساء وقوامتهم عليهن. ويبدو لي أن العنف الذي غدا أساس العلاقات الاجتماعية، ولا سيما العنف حيال المرأة، يرجع إلى هذه الوضعية المأزقية، وضعية التملك الأناني والاستهلاك النهائي والاستمتاع الذاتي الفاسق وشهوة الافتراس التي ينجم عنها الإيلام المتبادل وتبكيت الذات. وإنها لحلقة جهنمية أو دائرة مفرغة كل نقطة على محيطها هي البداية والنهاية. المقدمة هي النتيجة. إذ لا يستطيع أحدنا أن يعامل المرأة على أنها كلبة من دون أن يعترف ضمناً بإنسانيتها؛ وإذ يشعر، ولو على نحو غامض، أنه إنما يهين ذاته ويزدري ماهيته بإهانتها وازدرائها، يلجأ إلى نفي إنسانيتها، ويجهد في إقناع نفسه بدونيتها وعدم استحقاقها الاحترام، بل عدم استحقاقها الحياة، ومن ثم يغدو مجرد الإبقاء على حياتها، بحكم الحاجة إليها، هو ذروة الرحمة وكرم الأخلاق. والتدابير القانونية الإجرائية، على أهميتها، لا تستطيع حل هذه المعضلة، مهما كانت صارمة ورادعة، ما لم يبلغ المجتمع درجة من الوعي يدرك معها ماهية القانون في صيغته العامة والمجردة، بصفته تجلي الروح الإنساني، تجلي العقل في زمان ومكان محددين. أي ما لم يدرك المجتمع "روح القوانين"؛ وما لم يدرك المجتمع المعني أن روح القوانين هي قوانين الروح. ويغدو القانون قوة روحية داخلية في الفرد والمجتمع مرادفة للحرية ومقترنة بها، لا مجرد قوة خارجية غريبة ليست سوى قيد على الحرية. هكذا فقط تؤسس فكرة سمو الله فكرة سمو القانون. أليس ضرورياً أن نتساءل: لماذا يعامل المرء أو المرأة كلبه أو كلبها على نحو أفضل مما يعامل امرأته أو مما تعامل رجلها؟ في ظني أن مرد ذلك إلى أن المرء والمرأة يدركان على نحو قاطع حيوانية الكلب ويعاملانه على أساس هذا الإدراك الصافي، في حين لا تزال إنسانيتهما ملتبسة. هل أقول: إن أحدنا حين يحب كلبه هذا الحب ويعامله هذه المعاملة إنما يحب حيوانيته أو طبيعيته، أو ذاته الطبيعية في الكلب، في حين يعجز عن حب إنسانيته، أو ذاته الإنسانية في الآخر؟ ولطالما ظننت أن المسألة هي مسألة "إنسانيةٍ ملتبسة". فالإنسان أشكل عليه الإنسان، كما قال أبو حيان التوحيدي. لذلك لا بد من نشر وعي مناسب بهذه القضية التي يقاس بها تقدم المجتمعات ورقيها. وفي مقدم ذلك، تعرُّف صورة المرأة في ذهن المرأة نفسها، أو تعرف وعي المرأة لذاتها، في سائر تجلياته، في الأدب والفن وسائر فروع الثقافة وأنماط السلوك؛ لأن تصور المرأة عن نفسها هو الذي يحدد، بصورة نهائية، تصورها عن الرجل وعن المجتمع والدولة، وهو الذي يحدد موقفها من الرجل خاصة، وموقف الرجل منها، ولا سيما أنها أم الرجل ومربيته ومعلمته، وشريكته في الأسرة، نواة المجتمع الأساسية. ويشمل ذلك وضع المرأة في المجتمع وموقعها في سائر مجالات الحياة العامة، ومدى انعكاسهما في التشريعات والقوانين النافذة، وأهمية العمل في سبيل تطوير هذه التشريعات والقوانين بما يكـفل اتساق شخصية المرأة القانونية وشخصيتها الاجتماعية والأخلاقية، ومساواتها بالرجـل. والارتقاء بقضية المرأة من مجرد قضية نسوية إلى قضية اجتماعية هي قضية المرأة والرجل على السواء. فكما تكون المرأة في المجتمع يكون الرجل. وكما تكون صورة الرجل في ذهن المرأة تكون صورتها في ذهنه، وكما تكون رؤيتها لذاتها تكون رؤيتها للرجل، وبالعكس. الأنوثة الحرة هي شرط الرجولة الحرة، وبالعكس، وأكاد أقول الحقيقية في الحالين، لولا ذلك العنصر الطبيعي غير المرفوع. في ضوء ما تقدم يمكن الإسهام في إعادة بناء قضية المرأة، أو مسألة تحررها، وحريتها، وفق مبدأ حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، انطلاقاً من حقيقة أن الإنسان غاية في ذاته، بل هو غاية الغايات، وأن حريته هي أهم مظاهر إنسانيته وأهم مضامينها؛ فلا يجوز النظر إليه على أنه وسيلة لأي غاية أخرى، مهما سمت تلك الغاية، ناهيكم عن التعامل معه على هذا الأساس. فإن الاعتراف بالمرأة ذاتاً إنسانية حرةً، وفردية مستقلة، مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، وفي سائر الحقوق، ومعاملتها على هذا الأساس، هما المقدمة الأولى لتحرر المجتمع وتقدمه. وإن تحرر النساء شرط لازم لتحرر الرجال. والمجتمع هنا، في مفهومه وواقعه، هو، كما عرفه ماركس، الإنسان نفسه وقد غدا موضوعياً. "المجتمع هو الإنسان مموضعاً". وليس هناك شيء في المجتمع والدولة غير موجود في الإنسان بالقوة وبالفعل. وحينما ننظر إلى المجتمع وإلى الدولة على هذا النحو ندرك ماهيتنا الفعلية في قدرتها غير المحدودة على إنتاج أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ فالإنسان لا ينتج عالمه وتاريخه فحسب، بل ينتج ذاته في العالم وفي التاريخ. وهذا الإنتاج هو ما يطلق عليه اسم الثقافة والحضارة والعمران والمدنية. فحين نضع مقولة المجتمع تحت مقولة الإنسان تغدو جميع المقولات والصفات والتعيينات الأخرى تابعة. الإنسان هو مبدأ التاريخ وغايته، التاريخ الذي لا بد أن يغدو تاريخ الإنسان بدلاً من كونه تاريخ استلاب الإنسان وضياع ماهيته. في هذا القول الذي قد يبدو لأنصاف البشر وأرباعهم أقرب إلى موعظة أخلاقية احتجاجٌ جذريٌ على الأنصاف والأرباع، بل على التنصيف والتربيع اللذين تمارسهما ذات عليا مغتربة تدعي لنفسها مشروعية ميتافيزيقة مستوحاة من كلية ما تزال وهمية إلى حد كبير. هذه الذات العليا المغتربة، أعني المجتمع و / أو الدولة، لا تمارس التنصيف والتربيع إلا لأنها تنكرت لأساسها الطبيعي والعقلي والأخلاقي، أي تنكرت للفرد (ذكراً وأنثى) بصفته التجسيد الواقعي العياني للكلية الإنسانية، فضلاً عن صفتيه الاجتماعية والسياسية النابعتين من عضويته في المجتمع والدولة. المجتمع والدولة عندنا لا يعترفان بالفرد إلا بصفته وجوداً عضوياً بيولوجياً هامداً، أو وجوداً فيزيقياً هامداً؛ ويعملان بلا كلل على نفي إنسانيته لتسويغ ضروب العسف والظلم والاستغلال والإذلال والامتهان. ولذلك لا يزال المجتمع والدولة كلية وهمية إلى حد بعيد. ويقتضي ذلك أن يعمل جميع المؤمنين بأهمية قضية المرأة وراهنيتها، أفراداً وهيئات، في حقول الثقافة والتربية والقانون، في سبيل التعريف بجميع الشروط التي جعلت، وتجعل، من المرأة كائناً ضعيفاً ومهاناً، ونقدها. ونقد هذه الشروط هو المقدمة الضرورية لتحسينها أو لحذفها. فإن ضعف النساء الفعلي، في مجتمعنا، هو قوة الرجال الوهمية، وهو، في النتيجة، ضعف المجتمع الفعلي، ومصدر مظاهر العجز والتواكل واللامبالاة والإذعان والامتثال و"الخوف من الحرية"، وغيرها من المظاهر السلبية التي تسم حياته. وهمٌّ كل ما نسميه، أو يسمونه تقدماً، وقبض الريح، ما لم ينجز مجتمعنا ثورة كوبرنيكية على صعيد الوعي، تضع الإنسان في مركز العالم، وتجعله هدفاً للتقدم. والإنسان كائن نوعي خنثى، أو وحدة الذكر والأنثى وماهيتهما. وإن أحـد الوجوه القبيحة للتقدم الحاصل، عندنا، هو إعادة إنتاج العبوديـة واستغلال الإنسان للإنسان، وإبقاء المرأة عبدة العبد ومستغلة المستغل. والعبد، كما عرفه أرسطو، هو من ضعف روحه وقلت حيلته فأتبع نفسه لغيره. فارتقاء المرأة والارتقاء بها من "حرمة" إلى إنسان، هو ذاته ارتقاء الرجل والارتقاء به من عبد غيره إلى سيد نفسه. وما من شك في أن قضية المرأة مرتبطة بقضية الأسرة، النواة الأساسية للمجتمع. فالفرد والعائلة هما "مقدمتا المجتمع المدني، يجعلان نفسيهما بنفسيهما مجتمعاً مدنيا"،ً ودولة سياسية، تعبر عن الكلية الاجتماعية؛ فلا بد من إيلاء الأسرة عناية خاصة، والسعي في سبيل إرساء حياتها على قيم إنسانية واجتماعية حديثة، كأن تقوم على مبدأ الحقوق المتساوية في جميع المجالات، وعلى مبدأ الاختيار الحر والتشارك التـام في جميع شؤون الحياة. وهذا هو شرط الحب الإنساني الذي يتلقاه الأولاد فيكسبهم توازناً انفعالياً، ويوفر لهم الشروط الذاتية للسعادة. وحق الطلاق المتساوي للزوجين هو أحد شروط هذه الشراكة المتكافئة، وهو أمر لا بد أن يترك حسمه للقضاء المدني النزيه والمستقل والمحايد في هذه المسألة خاصة. بيد أن حق الطلاق لا يعني وجوبه، بل يعني أن رباط الزوجية هو الحرية مشروطة بالمسؤولية وبالنظام العام في المجتمع الذي لا يمكن أن يكون حراً إلا إذا كان جميع أفراده أحراراً. وهذا لا يعني إمكانية بلوغ الحرية المطلقة واستئصال جذور العسف والاستبداد والتسلط، والتمييز ضد النساء من العالم، بل يعني أن يبلغ المجتمع مرحلة من الرقي يتخذ فيها موقفاً روحياً وأخلاقياً مناهضاً للعسف والاستبداد والتسلط والتمييز، أو مرحلة يقول فيها، على الأقل، عن الظلم أنه ظلم، وعن الاستبداد والتسلط أنهما استبداد وتسلط، بغض النظر عن قدرته على وضع حد لهما. إن روح عصرنا لم تعد تقبل ولاية الرجل على المرأة، ناهيكم عن استعبادها، فإن من يستعبد الآخر لا يستطيع أن يكون حراً. وقضية المرأة في أحد أهم وجوهها هي قضية التربية والتعليم والمناهج والكتب المدرسية، قضية سعاد تكنس وعباس يلعب. التي تحيل على التقسيم الجنسي للعمل وتحديد أقدار الأفراد بالأعمال التي يمارسونها، وقضية احتقار العمل والنفور منه. هذه المسألة لا تختزل إلى ذكورية التعليم تعبيراً عن ذكورية المجتمع، بل تتعداها إلى نمط الثقافة السائدة، بوجه عام، وإلى الأيديولوجية التقليدية السائدة بوجه خاص. الثقافة التي تتوهم أن الذكورة محـددة بذاتها لا بالأنوثة. والتي تقيم فروقاً جوهرية بين الأفراد وفق اعتبارات الأصل والنسب والثروة والجاه والقوة، ولا تعترف بأنه لا تفاوت ولا تفاضل في الإنسانية، وفي المواطنة. الثقافة التي لا تعترف بأن الست هي الجارية وأن ابن الست هو ابن الجارية. وتلكم هي جدلية القهر وعلاقة السيد والعبد: الظالم هو المظلوم، والسيد هو العبد. هذه الثقافة التقليدية المفعمة بعناصر الاستبداد هي مضمون العلاقات الاجتماعية القائمة، علاقات الاستغلال والاستتباع والاستعباد، وليس بالوسع تحسين هذه العلاقات أو تطويرها وتحديثها أو تغييرها ما لم يتغير محتواها المعرفي والثقافي. لكن للدولة، بصفتها الافتراضية مملكة الحقوق والقوانين، والتجسيد الواقعي للحرية، وظيفة تربوية، تمارسها من خلال سيادة القانون على القوي والضعيف وعلى الغني والفقير وعلى الحاكم والمحكوم، فلا بد من العمل الدؤوب في سبيل ترجمة القيم الإنسانية، ولا سيما المساواة بين المرأة والرجل، إلى تشريعات وقوانين تكفل حرية الفرد وحقوق الإنسان وتصونها. فالدولة وحدها من يستطيع تعميم القيم والمبادئ الإنسانية والديمقراطية،في مناهج التربية والتعليم وبرامج التنمية الاجتماعية، ولا سيما برامج التدريب والتأهيل، ومن خلال المؤسسات الثقافية والإعلامية والخدمات الاجتماعية. فليس بوسع الأفراد والجمعيات والأحزاب السياسية تغيير العلاقات الاجتماعية من دون هذه الرافعة السياسية، التي هي الدولة، دولة الحق والقانون، المقدمة اللازمة منطقياً وتاريخياً للنظام الديمقراطي والدولة الديمقراطية. وهنا يبدو جلياً أن قضية المرأة، على النحو الذي أشرنا إليه، هي قضية ديمقراطية إن لم نقل إنها قضية الديمقراطية. إن جميع محمولاتنا ومكتسباتنا الثقافية، نحن النساء والرجال، هي تحديداتنا الذاتية، ليس لأي منها قيمة مطلقة، بل إن لها جميعاً قيماً نسبية محددة بمطلق واحد هو الإنسان، وكذلك مواقعنا في شبكة العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، ومواقعنا على سلم الإنتاج الاجتماعي، لأنها جميعاً من إنتاجنا وإبداعنا، وهي معرَّفة بالإضافة إلينا. ومن ثم فإنها قابلة للنمو والتطور والتحسن والتغير قابلية الإنسان لذلك. وكل ما رفعته البشرية في تاريخها إلى مستوى المقدسات إنما وجد من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجله. وكل ما يشـوب هذه المحمولات ويحـدد تلك المواقع من عسف وظلم واستغلال واستعباد إنما يرجـع إلى نمط تقسيم العمل وتوزيع الثروة وشكل ملكية وسائل الإنتاج. ومن ثم فإن قضية المرأة، بوصفها قضية إنسانية واجتماعية، هي قضية جهاد المعرفة لوعي استلاب الإنسان واغترابه عن ناتج عمله وعن عالمه وعن ذاته، بالدرجة الأولى، تمهيداً لحذفه. الطابع الجذري لهذه القضية يقتضي معالجتها، على صعيد الفكر أولاً، بصورة جذرية تتعدى جميع التابوات والتحريمات، وتخضع جميع المسائل والظاهرات لسلطان العقل ومطالب الروح الإنساني. صحيح أن الفكر لا يصنع التاريخ بصورة مباشرة، ولكن لا تاريخ ممكناً بدونه. ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولا نماري في أن المرأة العربية، على ما هناك من تفاوت في النمو بين الأقطار العربية، حققت كثيراً من المكاسب ونالت كثيراً من الحقوق، ولا سيما في مجالات العلم والعمل، وفي مجال القوانين الإجرائية، أهدتها كلها للمجتمع كما أسلفت، لكن جهل معظم النساء بتلك المكاسب وهذه الحقوق يجعلها كأنها لم تكن، ويبقي المرأة حبيسة العرف والعادة والتقاليد والأفكار الموروثة، ويجعل من حق العمل المتساوي مثلاً اضطهاداً مضاعفاً للمرأة العاملة، في ظل عدم تطور شرطها الاجتماعي والإنساني. لذلك لا بد من تعريف المرأة حقوقَها المكتسبة، وتمكينها من التمتع بها، لكي تستطيع المطالبة بحقوقها الأخرى، ولا سيما على صعيد الأحوال الشخصية. ولا شك في أن حق المرأة المساوي لحق الرجل في التعليم والعمل مكسب فائق الأهمية، بشرط أن يكون مدخلاً إلى تحسين شرطها الاجتماعي والإنساني والحقوقي والسياسي، وتغييره؛ وإلا فإنه سيعزز دونيتها ويزيد من شقائها، ويضاعف استغلالها، ما دامت أسس التربية ومناهج التعليم والكتب المدرسية والجامعية محكومة بشروط التقليد وأسسه المعرفية والأخلاقية. وإن وضع هذا الحق في موضعه الصحيح يقتضي إعادة النظر في أسس التربية والتعليم، وفي المناهج والكتب المدرسية، وفق مبدأ المساواة، وفي مبدأ الفصل بين الجنسين في المدارس والمعاهد. كما يقتضي إعادة النظر في شروط العمل، وضمان حق المرأة في عائد عملها المتراكم في ثروة الأسرة، بما في ذلك العمل المنزلي بصفته قيمة مضافة في إنتاج الأسرة يجب احتسابه في الناتج المحلي، ووضع التشريعات الكفيلة بحصول الزوجة على حقها في عائد عملها المتراكم في هذه الثروة، في حال انفصالها عن زوجها. بل إن الأدنى إلى العدالة أن تحصل الزوجة على نصف ثروة الأسرة، في حال انفصالها عن زوجها، بشرط أن تقيد ثروة المرأة وحصتها في ثروة أسرتها قبل الزواج، إضافة إلى ثروة الرجل ونصيبه من ثروة أسرته قبل الزواج، في الدوائر المالية والعقارية، على أنها ثروة الزوجين المشتركة مناصفة أو مساهمة بحسب اتفاقهما في عقد الزواج، وأن تنال المرأة، عند انفصالها عن زوجها، هذا النصف أو السهم من ثروة الأسرة حين وقوع المخالعة أو الطلاق، لأي سبب من الأسباب. وهو مما يجعل الطلاق أمراً صعباً من جهة، ويحول دون تعدد الزوجات من جهة أخرى؛ إذ يغدو زواج الرجل من امرأة أخرى مشروطاً بالضرورة بتطليق زوجته وإعطائها نصف ثروة الأسرة، مهما بلغت، أو أسهم منها، بحسب ما نص عليه عقد الزواج. وفي هذه الحال تنتفي الحاجة إلى المهر والسياق، إلا في صيغتهما الرمزية والشعائرية لمن يشاء، لتحل محلهما الهدايا المتبادلة والهبات. فضلاً عما في ذلك من فائدة للمجتمع كله من حيث وضع حد لتراكم الثروة والقوة والسلطة لدى القلة. فلا يظل تقسيم الثروة مقصوراً على المواريث. والأدعى إلى العدالة، في جميع الأحوال، أن تكون ثروة الأسرة مناصفة بين الزوجين يقسمانها بين أولادهما بالتساوي عند زواج أي منهم أو منهن، ويورثانها بالتساوي بين الأولاد والبنات. وأفترض أن الزواج المدني، العلماني، الثنائي، القائم على الاختيار الحر والقبول المتبادل، وعلى التعارف والتفاهم المتبادلين، بكل ما لهذين التعبيرين من معنى يحيل على المعرفة والفهم، بل على الحب بصفته معرفة وفهماً أولاً وأساساً، هو المدخل الضروري والمقدمة اللازمة لحل هذه المشكلة حلاً جذرياً. هذه المقدمة الضرورية اللازمة ستغدو في النتيجة زواجاً حديثاً، يكف عن كونه شقاء للطرفين. ولا يمكن أن يكون كذلك ما لم تتوافر له الشروط المادية والضمانات القانونية المناسبة. فضلاً عن كون الزواج المدني العلماني شرطاً لازماً، وليس كافياً، لتحقيق الاندماج القومي والاجتماعي، والانتقال من مفهوم الملة إلى مفهوم الأمة الذي يتجسد في المجتمع المدني والدولة الوطنية / القومية. ولما كان القانون، بصفته العامة والمجردة، هو مبدأ وحدة المجتمع وماهية الدولة، فإن الزواج المدني هو المدخل الضروري لتوحيد القانون مقدمة لازمة لتوحيد المجتمع؛ فلا يعقل أن نتحدث عن مجتمع مدني، أو عن وحدة وطنية في ظل قوانين متعددة في "المجتمع" الواحد، ولا سيما في مجال الأحوال الشخصية؛ إذ لا تزال هناك قوانين خاصة بالجماعات العربية غير الإسلامية، وبالجماعات الإسلامية غير السنية، على نحو ما كان الأمر عليه في نظام الملل العثماني، النظام الذي كان مدخلاً لتسييس مسألة الأقليات، وفرض مبدأ "حماية الأقليات"، وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتعزيز الانقسامات العمودية في المجتمع / المجتمعات العربية فيما بعد. لذلك لا يزال المجتمع العربي إلى اليوم يعاني من نقص في اندماجه القومي والاجتماعي، بل من تكسر صلبي في بناه الاجتماعية والثقافية والسياسية، تكسر لجم ولا يزال يلجم عملية اندماج المجتمع وتوحيد مجاله السياسي، ويلجم من ثم عملية تحرره وتقدمه. هذا التكسر الصلبي علامة بارزة على سيادة الوعي الوسطوي، المملوكي العثماني، وعلى عصر الحريم، أي على تأخر الفكر والوعي العربيين ومفارقتهما للعصر الحديث والفكر الحديث والمجتمع الحديث. ومن ثم فإن قضية المرأة تتصل، من هذا الجانب، بقضية علمنة المجتمع العربي وعقلنته وتحديثه وجعله فضاء مشتركاً من الحرية. فإن تربية الناشئة من الجنسين في فضاء الحرية الذي يمثله المجتمع المدني هو شرط التعارف والتفاهم اللذين أفترضهما مقدمة الزواج المدني، ولا سيما حين ينظر إلى الزواج على أنه شراكة كاملة، بل وحدة روحية ومادية تجسدها الأسرة التي بمقدار ما تكون جميع عناصرها حرة تولد أسراً حرة، وتوفر الشروط الموضوعية والذاتية لمجتمع حر. وليس من معيار لحب الأبوين لأولادهما أفضل من تنشئتهما على الحرية والاستقلال مقترنين بالمسؤولية واحترام القانون. الحب والحرية صنوان لا يستغني أحدهما عن الآخر. وهما كذلك لدى جميع الكائنات الحية، لكن الإنسان وحده يخلصهما شيئاً فشيئاً من قيود الضرورة العمياء. هذا كله يقتضي الاعتراف بضرورة العلاقة بين الجنسين، قبل الزواج، وبأهميتها للتعارف والتفاهم، وبضرورة إخراج هذه العلاقة من دائرة العيب والإثم، ونقل موطن الشرف من بين ساقي المرأة والرجل إلى رأسيهما وقلبيهما. ويضارع ذلك في الأهمية الكف عن ازدراء الجسد والاعتراف بأن الجسد كثيف النفس والنفس لطيف الجسد، كما قال أبو حيان التوحيدي. في اعتقادي أن قضية المرأة في مجتمعنا، كما في سائر المجتمعات المتأخرة، ذات طابع تنويري، وثوري في الوقت ذاته. مع أن الكثيرين عندنا باتوا لا يحبون كلمة "ثوري"، وقد يكونون على حق. لأن هذه القضية تستهدف النواة الصلبة للأيديولوجية التقليدية السائدة، بما هي أيديولوجية ذكورية، بل أيديولوجية ذكورة وهمية، وأكاد أقول مخصية. وإن طابعها المركب، التنويري والثوري، يكمن حصراً في اعتبارها قضية الإنسان وقضية المجتمع، على الصعيدين الإنساني العام والاجتماعي الخاص، وقضية الديمقراطية على الصعيد السياسي. ولا محيد عن معالجتها على نحو جذري، على الصعيد النظري، لتحرير رقاب الأحياء من قبضة الأموات، وكسب المعركة النظرية مع التقليد، المعركة التي يتوقف على كسبها مشروع التقدم العربي كله. لذلك لا بد من العمل في سبيل "جعل التأخر والاستبداد أشد شيناً وعاراً بنشرهما على الملأ"، ونقد الأوضاع العربية التي باتت دون مستوى النقد، لأسباب شتى، قد تكون هذه القضية من أهمها وأبرزها، إن لم أقل أهمها وأبرزها. وتبدو لي قضية المرأة، في هذا الإطار، قضية المستقبل، مستقبل أمتنا، ومستقبل العالم؛ وذلك لارتباطها الوثيق بتفاوت النمو الذي لا يني يتعمق بين القسم المتقدم من العالم والأطراف المتأخرة والمهمشة والمستباحة، وما يفرضه القسم المتقدم من العالم على الأطراف من كلف إنسانية واجتماعية واقتصادية، ومن إلزامات ثقافية وسياسية للحفاظ على تفوقه وامتيازه؛ ولارتباطها الوثيق بالمسألة الاجتماعية، مسألة التفاوت الاجتماعي، في الوطن العربي، وانقسام مجتمعاته إلى خمس من الأغنياء وأربعة أخماس من الفقراء المهمشين؛ ولا حرية مع الفقر والتهميش. ولارتباطها بالمسألة السياسية، مسألة النظام العام على الصعيدين: الحقوقي والسياسي. ولارتباطها الوثيق، قبل ذلك وبعده، بالمسألة الثقافية والأخلاقية بالتلازم الضروري، مسألة الوعي الاجتماعي لكتلة الأمة؛ الوعي الذي لا يزال متأخراً عن ممارسة المجتمعات العربية بوجه عام، وعن نظيره في المجتمعات المتقدمة بوجه خاص. ولا سيما بعد التراجع المطرد الذي بدأت نذره إثر هزيمة الخامس من حزيران 1967 ، وإخفاق محاولة النهضة الثانية التي قادها عبد الناصر، وبعد ارتداد أكثرية المجتمع عما تحقق في هذا المضمار إلى إعادة إنتاج الأفكار والتصورات والعلاقات وأنماط السلوك التقليدية مجردة من مضمونها الأخلاقي ومن جذرها المعرفي اللذين كانا يلازمانها يوم كانت مناسبة للشروط الاجتماعية التي نشأت في كنفها. وهو ما يعزز القطيعة المعرفية المزدوجة التي تسم الثقافة العربية المعاصرة، ولا سيما منذ مطلع سبعينات القرن الماضي: قطيعة مع الثقافة العربية الإسلامية الرفيعة للقرون الخمسة الأولى من التاريخ العربي الإسلامي، وقطيعة مع الإنجاز الثقافي الغربي الذي يجري تهريب بعض عناصره، وفق "المصالح المرسلة" للمهربين، وغمسها في التقليد المذكور بما يقوي نفوذ النخبة، ويعزز سلطة الدولة القطرية المرسملة والتابعة. هذه القطيعة المزدوجة تخلي المجال الثقافي المجتمعي لثقافة القرون الوسطى المملوكية العثمانية، ولعصر الحريم. في مثل هذه الظروف ينبغي التوكيد دوماً أن حقوق النساء هي واجبات الرجال. وحقوق الأفراد من الجنسين هي واجبات الدولة. واليوم، تتعزز سيطرة ما هو وسطوي في الوعي العربي والإسلامي، في خضم حرب الإرهاب الأمريكية على العرب والمسلمين، من خلال ردود الفعل الشعورية على الإرهاب الأمريكي من جهة، وتعميم الصورة التي أنتجها الأمريكيون عن العرب وعن الإسلام عالميا،ً من جهة أخرى. فالوعي العربي محاصر اليوم بين الفعل الأمريكي / الأوربي ورد الفعل الشعوري. ومعلوم أن رد الفعل هو أسوأ أشكال اللاعقلانية. في مثل هذه الظروف تغدو الحاجة ماسة إلى معالجة جميع القضايا معالجة جذرية، في ضوء ممكنات الواقع وحاجات تطور المجتمع. ************* [1] - الانتاج والاستهلاك، عند ماركس، حدان جدليان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر ولا يكون إلا به. وهما في تعارض جدلي يثبت كل منهما الآخر ويحتويه بقدر ما ينفيه. ولذلك كان حذف أحد الحدين حذف للآخر، وكذلك قطع الصلة أو العلاقة الضرورية بينهما. من هذه الزاوية يمكن القول: إن كل إنتاج هو استهلاك. وأن الإنتاج ينتج الاستهلاك وينتج المستهلك، والاستهلاك من ثم ينتج الحاجة إلى الإنتاج وينتج المنتج, ومفهوم الإنتاج هنا لا يقتصر على إنتاج الأشياء فقط، بل يشمل إنتاج الأفكار والرؤى والتصورات والأعراف والقوانين، والعلاقات والبنى والتنظيمات الاجتماعية والسياسية كافة. ومن ثم فإن الإنتاج هو تموضع الإنسان في العالم وفي التاريخ، أي انبساط الروح الإنساني ونموه في العالم وفي التاريخ. وفي اعتقادي أن الحب هو إنتاج بامتياز.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon