لا أعرف لماذا تخلى أحمد الغفري (بدون ألقاب كما ولدته أمه) عن كتابة خارج السرب! ولم ألتق به يوماً رغم السنوات الطوال..
تنشر بالتعاون مع جريدة النور
لا أعرف لماذا تخلى أحمد الغفري (بدون ألقاب كما ولدته أمه) عن كتابة خارج السرب! ولم ألتق به يوماً رغم السنوات الطوال التي تقاسمنا فيها زاويتين متقابلتين في الجريدة ذاتها! ورغم أنني خسرت ما كان يكتبه وأقرؤه بمتعة، وأحياناً (ببرمة بوز). إلا أنني (سعدت) لتخلصي من واحد آخر يكتب بطريقة جميلة حسدته عليها أحياناً! وبناء عليه أقول إن غيابه أحسن.. فهذا يسمح لي بالتراخي أكثر في كتابة هذه الزاوية التي لم تكن يوماً منفرجة.. بل لم تكن سوى حادة كرأس الرمح (وليس رمح عنترة العبسي الذي أنقذه عصره البعيد من وسائل الإعلام)!
لكن ما حز في نفسي أنه لم ينتقدني ولو مرة واحدة! وإن كان قد مدحني مرة! وكما تعرفون، المدح سهل مهما كان! أما الانتقاد فصعب مرتين: مرة ليكون مضمون انتقادك وشكله مناسباً، ومرة لتكون (مغامراً) بما فيه الكفاية لتخسر من تخسر بسبب انتقادك! وقد طمعت فعلاً في انتقاده لي، سواء أعجبني ما سيقوله أم لا. فالانتقاد، مرة أخرى، يعني الاهتمام حقاً بما تقرؤه!
وعلى سيرة الانتقاد، لعلكم تذكرون كيف شاعت في كل الأوساط (التقدمية) أسطورة النقد والنقد الذاتي. حتى صارت أحد (التابوات) ذات القدسية المفرطة! ويظن قادم من المريخ يطلع على ما كتب حول هذه الكلمات الثلاث، أن كل امرئ في هذا البلد يستطيع أن ينتقد كل شيء وأي شيء وهو مرتاح البال والضمير، والأهم مرتاح (السرير)! من الواضح أنه من المريخ!
المضحك في الأمر أن شبكة التقسيمات المرتبطة بالنقد تفوقت على متاهة (ميناتور) الكريتية! فإذا انتقدتَ السلطة (سلطة أو حكومة أو مسؤولين أو حزب حاكم..) غضبت عليك غضباً عملياً مفتوح النتائج من الحرمان الأرضي إلى حرمان الحياة! ورضيت عنك المعارضة (داخلية وخارجية ووطنية ولاوطنية...) رضاً ليس له معنى ولا أساس! أما إذا انتقدت المعارضة، فأول ما في الجعبة هو عمالتك (الموضوعية).. ولا تنتهي الأمور عند عمالتك الواقعية..!
لكن الأكثر متعة من ذلك هو تقبل دعاة النقد للنقد حين لا يكونون من السلطة ولا من المعارضة. أي أولئك الذين يفترض أن لا تدخل في حساباتهم الأسطورة الشرقية بامتياز: الخير والشر في المسؤولية من الناس. فإذا غيرت الناس تغير الحال. وهي أسطورة جديرة أن تُعلّقَ في صدر متحف السخافات الإنسانية. فسواء كان في الحكم هذا أو ذاك، هذه الجهة أو تلك، تبقى آلية الحكم ومقوماته هي التي تصنع السلوك الفردي لهذا المسؤول أو ذاك، وليس أبداً نواياه وشخصيته! والأمر كذلك أيضاً في الأحزاب والمنظمات والجمعيات.. وكل ما يندرج تحت مسمى (مؤسسة)! ولذلك لا يمكن أن يكون ديموقراطي في نظام ديكتاتوري إلا ديكتاتورياً! ولا يمكن أن يكون فاسد في نظام مدني قضائي صالح إلا صالحاً!
ولا يخطر ببالي طبعاً أن أدافع عن الحكومة، فإذا ما أعلنت ذات يوم الملفات الحقيقية، فسنسقط جميعا، بالتأكيد، صرعى السكتة الدماغية! إذا أظن أن دماغاً على وجه الأرض لن يحتمل الحقائق! لكن انتقاد الحكومة، أية حكومة، هو الأسهل دائماً. لأن حكومة على وجه الأرض، وعلى مر التاريخ، لم تستطع أن تنجز أكثر من عشرين بالمئة (رقم عشوائي) مما يجب أن تنجزه! انتقاد الحكومة سهل دائماً، أياً كان النقد شكلاً ومضموناً.
إذاً الممتع حين يتعرض أحد من خارج (شعب الحكم) المختار (الموجود بالفعل والموجود بالقوة) لنقد طالما مارسه هو على غيره، خاصة حين يكون غيره هو جهة (حكومية)! لكن، يا ويلاه إن سمع نقداً يخص عمله أياً كان! حينذاك سيفور (حليب النَّوَرْ) فورة قد تهون أمامها (فورة التنور.. وشروق الشمس من الغرب..)!
إذا لعب الشيطان بعقلك وقلت لنفسك: ها نحن أولاء ندعي (نحن = المدّعون أنهم ينتمون إلى ما اصطلح على تسميته المجتمع المدني، أي كل ما هو خارج الحكومي) الديمقراطية والشفافية، الأحرى بنا أن ينتقد بعضنا بعضاً، وعلناً. فمم نخاف؟ ألسنا نروج ليل نهار أن الشفافية والعلانية هي التي تسمح لنا جميعاً بتطور مستند إلى أوسع قاعدة من العقل الجماعي إذ تعلن تفاصيلنا لكل الناس؟! ألسنا من نطالِب بأدوار مشاركة في الحياة تستند أصلاً إلى انتقادنا ما هو قائم في الحياة؟! ألسنا...؟! وما دمنا كذلك، لم لا ينتقد بعضنا بعضاً وعلناً؟! فتعم المشاركة وتعم الفائدة؟!
لكن.. يبدو أنني أيضاً قادم من المريخ دون أن أدري! ما إن تُصدّق ما تقوله نظرياً، وتشرع في ممارسته عملياً، حتى تتحول فوراً من : صديق- شريك.. إلى عدو! وأي عدو! العدو الأكثر خطورة لأنك ممن حُسبوا (منا وفينا)! وتتوقف الحياة برمتها على البحث عن أسباب ارتكابك هذه (المعصية) التي لا غفران لها! ولك أن تعتذر وتحني رأسك و(تبوس التوبة) فيرضى عنك أصحاب العلاقة، أو أن تدافع عن صواب ممارستك ما تدعو الآخرين إلى ممارسته، ثم لا يعرف أحد إلى أين تصل الأمور!
المضحك حقاً أنك حين تدعو من انتقدتهم إلى نقاش علني لما طرحته، وسوق الحجة بالحجة، تتلقى وعوداً بذلك لها أول وليس لها آخر.. لكنها أيضاً تنتمي إلى عالم (ع الوعد يا كمون)!
حقاً.. لمَ نخشى أن نتعرض للنقد، ونناقش ما انتقدنا فيه علانية؟! ما مشكلتنا في هذا البلد مع العلانية؟ يبدو لي أنها المشكلة الأولى والأساس لكل ما نعانيه! ولو يتسع الوقت لملأت صفحات وصفحات عن ممارسات يومية في كل أنحاء الحياة وعلى المستويات كافة وفي المجالات جميعاً لا تلقى اعتراضاً ما لم تخرج إلى العلن! فإذا خرجت، صار (الدم للركب)! (ولكني سأفعل ذلك قريباً). ما قصتنا هذه؟ وأي تطور ندعو إليه ونحن نخشى أن يرانا الآخرون كما نحن؟ أو كما يرانا الآخرون؟! سواء أصابوا أم أخطؤوا؟! ولم ما زلنا نقسم العالم إلى مَن معنا ومن ضدنا (وليس بوش وحده الذي يقسمه! وليس هو أصلاً مخترع هذه الفكرة)؟!
لديّ جوابي الخاص طبعاً. لكنني لن أقوله الآن. بل سأمعن في (تناحتي) ويباس رأسي، وأقول لكم: نعم.. إن نواياي شريرة. وإن أهدافي المستورة تنتمي إلى عالم الشياطين.. لكن مع ذلك، فكروا قليلاً بهذا: الحياة تمضي قولاً واحداً إلى علانية مطلقة. وليس أمامكم، أياً كنتم وكانت انتماءاتكم ومناصبكم ومسؤولياتكم وصلاحياتكم..، سوى أحد خيارين: أن تدفنوا رؤوسكم في الرمال منتظرين أنياب الثعلب والكثبان المتحركة.. أو أن تعيدوا النظر بما أنتم عليه.. فتفكروا..
31/5/2006
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon