عرض الأيام المخمورة.. مثال جيد على عرض سيء

لن يتذكر المشاهد أثناء حضوره عرض الأيام المخمورة على خشبة مسرح راميتا بمناسبة يوم المسرح العالمي، لن يتذكر أنَّا كارنينا تولستوي،


لن يتذكر المشاهد أثناء حضوره عرض الأيام المخمورة على خشبة مسرح راميتا بمناسبة يوم المسرح العالمي، لن يتذكر أنَّا كارنينا تولستوي، كذلك لن تخطر على باله نورا إبسن، ليس لأن ونوس يحمل فكرا رجعيا، فونوس معروف فكره بل واضح اتجاهه، وليس بحاجة إلى تعريف، فنص الأيام المخمورة الذي كتبه في آخر حياته قد أسيء فهمه أو أنه قرئ قراءة مغرضة قلبت الهدف الأساسي للنص وظهرت المقولة على عكس ما هي.
تدور أحداث الحكاية في أواخر الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، من خلال عائلة موزعة بين دمشق وبيروت، حيث يحكي الراوي حكاية جدته سناء التي هربت مع عشيقها تاركة زوجا وبنتين وشابين مما يؤدي إلى تشتت العائلة وتمزقها. نأخذ باكتشاف الحكاية مع الراوي شيئا فشيئا من اللحظة التي تبوح بها سناء وهي في الثلاثينيات للتابعة أو لظلها، عن رغبتها المتأججة في الحرية والانطلاق ولا تلبث أن تلمح لابنتها الصغرى عن نيتها تلك، وفي حفلة رتبها الأولاد بمناسبة عيد ميلاد أبيهم يقوم الأولاد بتغيير زيه من التقليدي إلى المعاصر، ثم يتم اللقاء مع العشيق عند محل للخياطة ويبوح الحبيبان بعشقهما، فتقرر سناء الهرب وتحاول بنتها الصغيرة منعها من ذلك فتقع سناء بين رغبتها المتوهجة في الهرب مع حبيبها وإلحاح بنتها المحببة في البقاء، ثم تروح بعد أن تعطي بنتها سرها وتطلب منها أن تكتمه.
تقوم قيامة العائلة؛ يستعيد الأب زيه التقليدي ويبدأ بسلسلة تحقيقات مع البنت التي فقدت القدرة على النطق، تخرج البنت الكبرى لتجد نفسها في صالونات المتنفذين، يتحول طالب الجامعة الأمريكية إلى التجارة بالمخدرات ويتوه الدركي الطيب في صراع مع العار ورغبته في سد تلك الفجوة التي أحدثها هروب أمه.
لا شك أن العرض اعتمد على حلول ذكية ولافتة كاستخدام الستائر بدلا من قطع الديكور الثابتة بالإضافة إلى السلاسة في الانتقال بين المشاهد المختصرة وبطريقة ذكية غير منقوصة من دلالة يريدها العرض وصاحب العرض، أيضا الصور الفوتوغرافية التي تشير إلى أن الحكاية مستمدة من هذه الصور، بالتالي يمكن أن تكون محض تخيل، مما يوفر تبريرا لأي ثغرة يمكن أن تنشأ مع المشاهدة، بل إن هنالك براعة في استخدام "اللمبة" المتنقلة مع قطع الديكور، قطع الديكور المتقشفة أصلا، فمن قطعتين أو ثلاثة استطاع المشهد أن ينقل جو الكاباريه مثلا.
كل ذلك حلو ويعبر عن شكل جذاب يمكن أن يشد المتلقي، لكن أي علاقة لهذا الشكل مع ما يطرحه العرض من مضمون؟
أعتقد أن المشكلة الأساسية هي تلك المتعلقة بقراءة النص، فلا شك أن ونوس يطرح فكرة تنويرية من خلال كسر قدسية الذكر والتحرر من سيطرته، فكرة متعلقة بالحرية والانعتاق من المفاهيم السائدة في مجتمع يسعى إلى الحرية من المستعمر، بالتالي فشخصية سناء شخصية ذات حساسية خاصة يجب تناولها ضمن هذا الإطار حيث تقدم نفسها كمن تكسر جدران التقاليد لتنطلق إلى فضاء الحرية. على ذلك فأي قراءة لا تتناول النص من هذه الزاوية يمكن أن تحور هدفه السابق، بل تعكسه وتصبه في سياق رجعي بحت.
ففي العرض تخرج سناء من بيت زوجها أو تهرب من دون أن تعطينا أي مبرر حقيقي، فليس من مبرر أن تكره زوجها، ومشهد السرير معالج بطريقة تدينها إن هي فكرت في كره هذا الزوج ولا يمكن تفسير السلوك والحلول في هذا المشهد إلا ضمن إطار الغزل. أيضًا مشهد الرحيل، فظل سناء أو التابعة يلح على أن هذا الهروب ليس له من مبرر إلا الدعارة بالمفهوم السائد، ويقف المشاهد حائرا أمام قرار في غاية الغموض في الهروب مع شخص ليس له جاذبية الزوج ولا يملك شيئا من مقوماته، فأي مبرر وأي سبب يمكن أن يجده المرء وهو واقف حائرا أمام مسرحية تم الإعلان عنها بأنها نص سعد الله ونوس المعروف جيدا.
«لقد فسد العالم» هذه مقولة العرض لن يجد المشاهد أي مقولة أخرى ولكنها لا تخص ونوس في شيء وإنما تخص دراماتورج العمل أو مخرجه.  ليس ونوس من يطلق تلك المقولة الغبية والمعممة لأنه محكوم بالأمل ولقد حاول في كل ما كتب فتح الأبواب لا إغلاقها.
إن الرؤية الفنية التي تعطي الأولوية للشكل على حساب المضمون أو بغض النظر عنه وعن ماهيته صارت اليوم رؤية متخلفة ومن الماضي، وإنما تعبر عن عمى ثقافي ومرض مستشري، وهي في حالة عرض "الأيام المخمورة" التي نناقشها؛ إن كانت في جمالية الكادر والألوان والإضاءة واستخدام الديكور الذكي والملابس وما إلى هنالك من عناصر، تشكل عذرا أقبح من ذنب، لا سيما وأنها تدعو إلى الانغلاق كمن يقول: اختبئ! نم في قوقعتك! وإن كنت تفكر في تحرير نفسك فانس الأمر، أو هو تحذير لأي امرأة تفكر في الحرية بل درس شديد الفعالية، وهو يشير إلى سناء المشلولة في نهاية المسرحية وكأنه يقول:  "هذه نتيجة من تفكر بالحرية وتقدم على الفعل" طبعا كل ذلك بأسلوب جذاب وجمالي ومتقن.

إنه القتل لكن بأكثر الوسائل جمالية.
لست ممن يفرض قراءة معينة على أحد ولكن للأشياء طبيعتها فلا يمكن مثلا أن نقرأ نورا إبسن على أنها عاهرة فبذلك نبتعد تماما عن حقيقة النص.  كذلك لا يمكن قراءة زوربا على أنه نصاب يسرق مال صاحبه، لأننا بذلك نكون واقعين في ذهنية منغلقة ومتخلفة.
وليكن.. ربما يكون مخرج العمل ذا ذهنية منغلقة ومتخلفة ويعتقد بأنه حر فيما يكون أو أين يكون... فإن كان كذلك فليكتب نصه وليدع نص ونوس وشأنه.
لكن ومن ناحية أخرى هل الترويج للانغلاق مقبول اليوم؟  لا أعتقد ذلك فربما كانت الدعوة إلى الانغلاق فيما مضى وجهة نظر، لكنها اليوم دعوة تشبه الدعوة إلى القتل.
لقد استطاع تولستوي عن طريق أنّا كارنينا أن يغير القوانين المتعلقة بالزواج في روسيا، كذلك فقد سمعت أوروبا كلها صوت الباب الذي صفعته نورا إبسن بوجه زوجها فاتحة بابا آخر للحرية، لم يكن من إشكال في قراءة النصوص، فقد قرئ نص تولستوي وطرق الآذان ووصل وغير، كذلك وجد هنريك إبسن مخرجا يعرف الأشياء من دون مزاودة ويحسن القراءة كمحترف، ووصلت رسالته وسدت الآفاق وغيرت.
أما سعد الله ونوس المحكوم بالأمل فقد وقف حزينا أمام عرض، متوقَّعا أنه ليس أقل شأنا من هؤلاء الكتاب الذين غيروا مجتمعاتهم بشكل فعلي، واستدار وراح وهو يأمل على عادته أن يصحو البشر في يوم ما ويأتي مخرجون يرون الأشياء بشكل صحيح، ويستطيعون التفريق بين الألوان ويعرفون القراءة كما يجب.


الموقع الشخصي لمطاع القاق

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon