وأنا أعتذر..

أعتذر عن تهذيبي المفرط في التعامل مع الذين أعرفهم ولا أعرفهم. أعتذر عن ابتسامتي المجانية التي كنت أقدمها بعفوية وبراءة هشة سرعان ما تتخدش.

أعتذر عن تهذيبي المفرط في التعامل مع الذين أعرفهم ولا أعرفهم. أعتذر عن ابتسامتي المجانية التي كنت أقدمها بعفوية وبراءة هشة سرعان ما تتخدش.
أعتذر عن الاختلاط بأناس لا تجمعني بهم سوى اللغة والمنطقة الواحدة لأنهم للأسف مجموعة من الأحقاد الطائفية, والفروق العقلية والفكرية التي تمشي على الأرض بهيئة بشر.
- هذا الاعتذار الغريب والبائس صدر عن صديقتي القديمة هلا التي كانت تسكن بجوار بيتنا السابق في حارة العمارة، في مدينة جبلة.
كلام هلا هذا أتى حين سألتها عن أحوالها، وعن أخبار حارتي, والذي قد فاجأني كثيراً! فقلت: ما بك ماذا حصل؟!
أجابتني بأسى: كيف؟! ألا تعرفين وأنت ابنة مدينة صغيرة يعرف الجميع أخبار الجميع فيها ويتناقل الأخبار؟
ألم تعلمي أن جارنا العم... صاحب (الميني ماركت) الذي أرسل أولاده إلى السعودية للعمل وتأدية فريضة الحج, قد قام بإغلاق باب المحل وإقفاله من الخارج حين دخلت لولو ذات الخمس سنوات لتشتري السكاكر؟!
قلت لها باستغراب: وماذا حصل بعدها؟!
صرخت بوجهي: الذي صار أن ولده عبد الرحمن الذي كان في الداخل قد باع ضميره ومبادئه التي لم تكن موجودة أصلاً! واشترى طفولة لولو بثمن بخس! بينما كان والده الحاج يحرس الباب خوفا من قدوم أحد.. ولإتمام العملية بهدوء! ولم يرأفا بصراخ لولو ودمها الذي ملأ المحل وتسرب من تحت الباب!
اختفى صوت صديقتي ليحل محله نحيب شديد. كانت لولو ابنة أختها, وكنا أنا وهي نشتري من هذا المحل، ونتعامل مع صاحب هذا المحل على أنه أب وشخص قدير لأنه كبير العمر! وكم تبادلنا أطراف الحديث والمزاح معه!
لم أقدر أن أتكلم أو أنطق بأي حرف! تركتها مع دموعها وملابسها السوداء.. واتجهت إلى البحر.
شعرت لوهلة أن عقلي سينفجر كفقاعة.. وقلت لنفسي: آه.. كم أتنمى أن أختفي من هذا العالم!
تذكرت أمي وتذكرت طفولتي, كم كانت أمي تخاف علي! كانت تخبئ لي شعري الطويل الأشقر تحت ثيابي, وتلبسني، في عزّ الحرّ، ثيابا فضفاضة بأكمام طويلة! تلاحقني أينما ذهبت.. وتشبعني وصايا حفظتها غيباً قبل أن أذهب إلى اللعب أو إلى المدرسة (لا تكلمي شخصاً غريباً ولا تأخذي من أي أحد قطعة بسكويت ولا تدخلي أي منزل لا تعرفينه.. ولا تذهبي من دون أن تخبريني).
وحتى عندما كنا نذهب إلى السباحة مع والدي في (مسبح زيتون) في جبلة، كانت تلبسني بنطلوناً وقميصاً!
كبرت وأنا أغضب من تصرفات أمي وملاحقتها ووصاياها ومطاردتها لي! ربما لأنني لم أكن أعرف السبب سوى كلام سمعته منها عندما أنَّبتها صديقتها على تصرفها وخوفها الزائد علي! لكنني لم أفهم شيئاً.
الآن، بعد كل ما نسمعه ونراه من تشويه للطفولة، ومن شذوذ أخلاقي وضميري وديني، وسلسلة من الحوادث التي تكررت في هذه المدينة.. الآن عرفت السبب!
لولو طفلة.. ولكن كثيرين لا يرونها هكذا! ولا يفهمون من الطفولة شيئاً! ولا يميزون حين تحكمهم غرائزهم الوحشية الهمجية وأحقادهم المتوارثة، بين طفلة أو امرأة عجوز كهلة!
لقد عرفت الآن لمَ كانت أمي وصوتها يرافقاني أينما ذهبت! وإلى الآن وصاياها في أذني! لقد كانت تخاف عليَّ من الغربان والذئاب البشرية المنعدمة من الإنسانية والرحمة.. أن تنقض على براءتي وتشوه أحلامي وتكسر نفسيتي وروحي، كما حدث مع لولو ولؤلؤات كثيرات غيرها..
لهذا أنا أضم صوتي إلى صوت صديقتي.. وأعتذر أيضاً.


موقع الأيهم صالح

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon