احتشد الشّهداء على اختلاف عصورهم، وساحات استشهادهم, وتنوّع الأهداف التي استشهدوا في سبيل تحقيقها، احتشدوا، في ساحة متاحة من السّماء، متظاهرين احتجاجاً على ما وصل إليه حال ذكراهم على الأرض من غبن ومهانة، وقد حملوا لافتة كبيرة تقول: دعونا نرقد بسلام! ثمّ قدّموا وثيقة مطلبيّة للجنة حقوق الأموات التي مابرح عدد المنتسبين إليها يتناسخ على نحو لافت للضّمير, التي على ما يبدو أشرعت أبواب الانتساب إليها لكلّ ذي مأرب, يمتطي هدفاً ليس بنبل وسموّ الهدف الذي استشهدوا من أجله, جاء فيها: لا تستخدموا أسماءنا مطايا وجسوراً, لمآربكم. لا تتباكوا علينا.. فمنكم من قتلنا، أو ساهم في قتلنا.. أو اختلس مساحة ضوئنا، وافترش فضاءنا ملعباً لأمجاد ألصقها به، وحملت اسم عصر نسب إليه. لا تطلقوا أسماءنا على شوارعكم، فشوارعكم مازالت ضيّقة، ملتوية مخدّدة، مليئة بالحفر, موحلة تنوء بنفايات المدن، وعبث الأيدي الماجنة, وسقط المتاع، الذي طمر كلّ درب شققناه بفيض أرواحنا. شوارعكم التي ما تزال تضيق على قاماتنا. لاتطلقوا أسماءنا على حدائق مفتعلة، تغرسونها متبرقعين أمام حدقات آلة التّصوير المأجورة لمهرجان النّخاسة, حتّى إذا غادر المصوّرون والمدّاحون ومندوبو الصّحف العجفاء، تتركون الغراس لرحمة الأنواء، ولمجون الفوضى واللامبالاة. فتطأ الأقدام الماجنة ما تطأ، وتكسر الأيدي الغبيّة ما تكسر. وتقتلع ما تقتلع, وتغدو الحديقة التي تحمل اسمنا بوراً, ومرتعاً لجرذان الحقل، والقطط الهزيلة الضّالة, والمضلّلة، ومكبّاً لسقط المتاع. لاتسمّوا مدارسكم بأسمائنا ونحن الذين حملنا رسالة الحقّ والحقيقة كما الحمائم الزّاجلة، فاقتنصها سهم الجهل الذي مزّق أعناقنا وأجنحتنا المدمّاة التي ما همّنا إن تناثرت في وجدان الحياة وعلى ذرا وسفوح الكون روحاً نضراً وضوءاً وعبقا ً, بل كان همّنا أن تصل الرّسالة. قليلون هم الذين أجادوا قراءتها, وهؤلاء هم الباقون من رتلنا الذي ما زال يتتابع. لكنّكم قتلتمونا ثانية- حين اغتلتم الحقيقة التي من أجلها مضينا راضين- إذ إنّكم ولأمّيّة وجدانية متأصّلة ما قرأتموها حقّ قراءتها فشاهت سطورها, وتداخلت حروفها، وتكدّرت معانيها، وتشتّتت مزقاً, فأشدتم باسم كلّ مزقة مدرسة سمّيتموها باسمنا. فلا تطلقوا أسماءنا على مدرسة تخنق لافتتها الحديديّة السّوداء أنفاسنا السّماوية، وتحصر ضوءنا بخدعة هويّة مزيّفة، عليها تأريخ التأسيس، ثمّ تترك لرحمة إدارات غير كفؤة, ومربّين لاأهلية لهم ومناهج يعلوها الصّدأ الذي سرعان ما يتسرّب من جدرانها المتداعية, ويلتصق بأسمائنا! التي تختلط بتردّي الأداء, فيطمس الضّباب المعتكر بخيبة الآملين ألق أسمائنا, وتختلط على الدّاخل إليها والخارج منها رداءة الفعل وانكسار المكان بالاسم الذي يحمله. فتغدو أسماؤنا مرمى لعنات السّاخطين، الذين يشتمون المكان باسمنا حين لا يفي الفعل بالحلم . ولكم جميعاً أن تتصوّروا كم هي خصبة تربة اللّعنات تلك! حين يصبح اسمنا مع مرور الزّمن رمزاً يلتصق بالمدرسة أو بالحيّ، أو بالشّارع، أو بالحديقة، أو بأيّة منشأة تنشئها الأيدي (البيض) وتنساها! ولكم أن تتخيّلوا كم من الأمكنة والمساحات تلعن باسمنا! مبرّر هو سخط المحبطين، ومشروعة تجلّيات إداناتهم، ونحن ندرك ـ بلا أيّة ضغينة ـ مدى الحيف الذي لحق بأحلامهم المصادرة, ونعلم كم هي وارفة ظلال ذكرانا في وجداناتهم المقهورة ونعلم أنّهم حين يبدّدون ما شحن أرواحهم أنّهم لايقصدوننا بذاتنا.. وحقّنا ليس عندهم، فليقصدوا ما يقصدون. أمّا أنتم المحسوبون على الأحياء, فأطلقوا ما تشاؤون من أوهام على منجزاتكم. فلئن لم يف الأحياء لنا حقّنا بتحقيق ما افتديناه بأرواحنا، ومتنا من أجله، ومن أجل حاضر ومستقبل أجمل لهم فلا أقلّ من أن تصان أسماؤنا من اللّعنات. فإمّا أن تضاء دروب شققناها بوهج دمائنا، وتتّسع لمدّ الخطو الإنساني, وإمّا أن تونع حدائق فرح سقيناها حنين أطفالنا، ودمع الحبيبة.. وإمّا أن تشيَّد مدارس منارات هدي تليق بلهفة الحلم المعتّق. أو دعونا نرقد بسلام، بمنأى عن أسواق مضارباتكم. أخرجونا من أسن سمسراتكم. وأعطونا اسماً جديداً وبلغة جديدة تليق، ما دام المجرمون الذين يقتلون الأبرياء، صاروا يسمّون أيضاً شهداء.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon