اللقطاء، ونظرة المجتمع...

خاص: "نساء سورية"

قد تتحمل هذه الحياة القاسية أن يكون الإنسان معوقاً، أو أن يكون لقيطاً، لكن...، لكن ماذا لو كان الاثنين معاً..!!
كبشر ممتهنين الإنسانية، لم نختر آباءنا، ولا شكلنا، ولا أسماءنا، ولا بلداننا، وكل الأوضاع المرتبة أو غير المرتبة التي تكون في الخارج بانتظارنا، هي مسؤوليتنا مدى الحياة، وهنا تبدأ عملية الظلم اللانهائية، ومن ثم على أرواحنا أن تنحصر في شكلنا المفترض حتى يتوقف عن الحياة... إذا إنها الحياة حيث يبدأ خيارنا، بمعطيات لم نخترها، لكنها ملكنا الآن مهما يكن، وعلينا أن نبدأ شئنا أم أبينا... إذا فلنمتلك الشجاعة على الحياة..
لكن مع ذلك يبدو الأمر صعباً وقليلاً ما نصادف من امتلك الشجاعة في حياته، لذلك سأحدثكم عن أحدهم:
ج.أ فتاة في السادسة والعشرين من عمرها، تعيش بكلية واحدة، معوقة بشلل الأطفال الخلقي، مع بتر أحد الطرفين. وإصابة بحمى البحر الأبيض المتوسط.
تقول ع. ن عندما وعيت على ذاتي وجدت نفسي في جمعية المبرة الإسلامية في حلب، في الصف السادس، بلا أب ولا أم، محاطة بالأقاويل عن هويتهما، ثم تبناني- مرغماً- شخص زعم الجميع أنه أبي غير الشرعي، وأعطاني لقبه، ثم عمل مع عائلته على تعذيبي وضربي وإهانتي، وجعلوني أقوم بأعباء البيت من غسيل وجلي وتنظيف، بهدف دفعي إلى الهرب.. والتخلص مني... لقد كانوا خجلين بوجودي أما المجتمع الراقي المنمق الذي كانوا يعيشون فيه..هكذا حتى صار عمري- التقديري- أربعة عشر عاماً، هربت وجئت إلى دمشق، زحفاً إلى الكراجات، ثم استقليت أحد الباصات -ولم أكن أملك شيئاً وقتها- ودون أن أعلم ما ينتظرني في دمشق، فأنا معوقة ولا أعرف أحداً هناك، لم أفكر بما سيحدث معي في ما بعد، كان الهر ب من حلب همي الأساسي، ثم واصلت الزحف حتى وصلت إلى حديقة صغيرة في التجارة وجعلت منها مسكناً لي، بمساعدة بعض المتشردين مثلي..ثم تعرفت علي إحدى العائلات القاطنة بالقرب من الحديقة، وأخذوني لأعيش معهم، كانت هذه العائلة مؤلفة من الأم وثلاثة شباب وفتاة معوقة بالشلل الدماغي، لكني وبعد فترة أصبحت أتعرض لبعض المضايقات والتحرش الجنسي من أحد هؤلاء الشباب الذي زعم أنه يحبني، وأنا لم أكن أعرف شيئاً عن الحب، وكل ما أعرفه التشرد والزحف، والوحدة، مما دفعني إلى الهرب والعودة إلى زاويتي الصغيرة في تلك الحديقة، إلى أن رأتني جماعة من جامع قريب، فألحقوني بدار للعجزة.
تعايشت مع أفراد الدار المسنين والبعيدين كل البعد عني، ثم توظفت في الدار واستقريت فيه، أعاني الآن من الوحدة وعدم الانسجام، إذ لا يوجد أحد في مثل سني..، وقد حظيت بدعم من السيدة الأولي في علاجي وفي عدد من العمليات التي أجريت لي. أحب الخياطة وعملت بها في الدار قليلاً، واضطررت للتوقف بسبب الآلام الحادة الناتجة عن الإصابة بالجنف في العمود الفقري.
لقد عشت عدداً من قصص الحب وفشلت جميعها، والسبب الرئيسي هو ليس الإعاقة، بل هويتي المجهولة، ثم تأتي الإعاقة في الدرجة الثانية.
توفي أبي بالتبني منذ مدة وجاء الأولاد-إخوتي- للتعرف علي، وحاولوا التقرب مني، يتملكهم، إحساس عارم بالذنب تجاهي، جعلوني أشعر بالأسى عليهم إلى درجة القرف..فأنا لا أرغب بالتواصل معهم..، ويبدوا أن أبي شعر قبل وفاته بتأنيب الضمير فقد خصص لي (700) ل.س من راتبه التقاعدي.
أحلم بالزواج والاستقرار وإنجاب طفل يصرخ حتى يملاً الكون- ماما-
أشعر أني لست معوقة، ولا تؤثر في نظرات المجتمع الدونية فقد امتلكت بجدارة امتياز واستحقاق الحياة عبر تجربتي القاسية، وأتمنى أن أعيش حياة طبيعية.. كما أتمنى أن يكون هناك دور خاصة للشباب، وليس فقط للعجزة..
مشكلتي الأساسية الآن هي عدم الاحساس بالزمن، فأنا لا أعرف عمري الحقيقي، والتشرد الذي عشته، كما عاشه ويعيشه الكثيرون في بلدنا، أفقدني الإحساس بالزمن... والرفيق الأشد قرباً مني هو الألم.. الألم الداخلي الذاتي المتوحش في أعماقي، والألم الجسدي المترافق مع إعاقتي، ومرضي.. لكني سأصمد بالتأكيد..إنها حياتي..

2/2006
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon