قبل نحو خمسة عشرة سنة وُجدت الطفلة "م.غ " ابنة الثلاث أعوام على باب أحدى دور الأيتام، بلا أية دلالة على هويتها أو أسمها أو أي إشارة إلى أهلها، فاضطرت إلى البقاء فيه حتى بلغت الخامسة عشرة، عندما تعرف أليها احدهم بالصدفة وارشد إدارة الميتم إلى بيت جدها إلى أمها، واليوم بعد أربع سنوات على عودتها إلى منزل أبيها تقرر " م.غ" العودة إلى دار للنساء المعنفات، بعد أن واجهت تجربة أكثر مرارة في منزل والدها. القصة بدأت عندما قررت والدة الطفلة " م.غ " التخلي عن ابنتها وحرمان زوجها أيضا من الفتاة، و كمن يقول "عليي وعلى أعدائي: قررت أن تضعها أمام باب الميتم بلا أية وثيقة تثبت شخصيتها. ورحلت لتمارس حياة لا يعرف أحدا حتى الآن ما هو كنهها وما هي طبيعتها، إلا أن إدارة الميتم ترجح أنها رحلت كي تعمل في الدعارة. تاركة الطفلة تواجه قدرا لا تزال إلى اليوم في حالة من الحرب معه. القائمون على الميتم قاموا بتربية الفتاة ولم يتمكنوا من معرفة أي شيء سوى اسمها الذي تفوهت به الطفلة لحظة وجدت على باب الميتم، إلى أن حملت الصدفة أحد الأشخاص إلى التعرف على عائلة أم الفتاة وأرشدهم أليها. أهل الأم بدورهم أتوا إلى الملجأ وتعرفوا إلى ابنة ابنتهم، وكان لوصولهم في البداية أثرا مميزا في حياة الفتاة، التي بدأت تظهر تفاصيل عن حياتها كانت خافية على الجميع، وظن البعض أن مشكلة هذه الفتاة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة بدأت تأخذ طريقها للحل، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، فالأيام الهادئة التي كانت تعيشها الفتاة في ظل الميتم الذي صار جزءا من حياتها، انتهت مع وصول الخبر إلى والدها الذي أصر على عودة الفتاة إلى كنفه. لم يستطع بيت أهل الأم أن يحافظوا على السر طويلا، فاخبروا أبيها أنهم عثروا على الفتاة في إحدى دور الأيتام، ولم يتمكنوا من الاحتفاظ بها لتعيش عندهم بسبب خوفهم منه، فقرر الأب إعادتها للعيش في منزله، وكان قد تزوج من امرأة أخرى وأنجب منها ولدا كان من المفترض أنه شقيق ل"م " لكنه لم يكن يحمل من معاني هذه الكلمة سوى الاسم. معاناة "م" في منزل أبيها بدأت عندما فرض عليها الأب حصارا، منعها من خلاله التنقل أو التجول بحرية، بسبب عدم ثقته بها بناء على ماضي أمها التي لا تعرفها الفتاة أصلا، فكان ممنوعا عليها زيارة احد بمن فيهم منزل جدها. في حين كانت المشكلة الأكثر تعقيدا والتي أدت بالفتاة إلى ترك المنزل إلى دار النساء المعنفات هي مشكلة ذلك الأخ الذي لم تكن تعرفه قبلا، فالولد لم يكن ليتقبل فكرة شقيقة لم يعش معها أبدا. مما انعكس على حياة " م" فبدأت تواجه سيلا من التحرشات الجنسية من أخيها وهذا ما دفعها إلى مغادرة المنزل، بعد أن يأست من تدخل أبيها الذي كان على قدر كبير من الشك بتصرفاتها وأفعالها وبالتالي صار أمر تصديقها شبه مستحيلا بالنسبة له. لم يكن أمام "م" سوى الرجوع إلى حياتها التي اختارتها لها أمها عندما كانت في الثالثة من عمرها، ولكن هذه المرة كانت العودة إلى حياة الميتم أهون ألف مرة من البقاء في منزل ليست واحدة من أهله، ولا تربطها بهم سوى كلمة لم تتمكن من الإحساس بها أبدا. الفتاة اختار الإقامة في أحدى دور إيواء النساء، وقد نجح هذا المكان بتوفير ما كانت تفتقد إليه في المنزل الذي جاءت منه. تقول إحدى الأخوات المشرفات على الدار: لقد جاءت الفتاة إلينا برفقة إحدى صديقاتها وطلبت الإقامة هنا، وكانت في حالة نفسية سيئة، وكان هذا نتيجة طبيعية لحالة غير مستقرة كانت تعيشها في منزل ذويها وخاصة محاولات التحرش الجنسي الذي كانت تتعرض له على الدوام، فقمنا باستقبالها وحاولنا توفير الجو الأسري الذي كانت تفتقد إليه، وقام المستشار النفسي بالإشراف على حالتها، وقد بدأت حالة التوازن النفسي تعود إليها، ونحاول اليوم تامين فرصة عمل مناسبة لها، مع الحفاظ على تبليغ أسرتها بأن ابنتهم بأمان، دون أن نعلمهم بمكان وجودها حفاظا على سرية العمل. وتضيف المشرفة: بدأت "م" تستعيد حياتها الاجتماعية السليمة، فقد أصبح لها العديد من العلاقات مع الفتيات المقيمات في الدار، وعاد إليها الشعور بالوسط الاجتماعي الذي كانت محرومة منه طوال السنوات الأربع الماضية التي أمضتها في منزل أبيها. ونحن وفي الدار نسعى جاهدين لتوطيد هذه الحالة وجعلها مستقرة عبر البحث عن الخيارات الملائمة للفتاة سواء من خلال دفعها للتعلم أو من خلال السعي لتأمين فرصة عمل مناسبة لها. وعلى كل الأحوال فإن مهمتنا لا تنتهي بمجرد احتضان الفتيات المعنفات أو اللواتي يقع عليهن الجور أو العنف ولكن الهدف الأساس لنا هو تمكينهن من تجاوز المعوقات التي تواجههن ومنحهن الفرصة لخلق حياة متوازنة وطبيعية. وأخيرا فإن " م" تمكنت من الوصول إلى احد ما ليساعدها، ويدعمها من أجل تأمين استقرار وضعها، ولكن ما هي الحالة بالنسبة إلى آلاف النساء اللواتي لم ينجحن في الوصول إلى من يمكن أن يقدم لهن المساعدة أو الدعم؟.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon