متوالية الحزن والفرح

في متوالية الحزن والفرح تغتسل  في تلافيف الدماغ أشياء  صغيرة كانت قد ابتليت بأوساخ التقدم بالسن  وتبدلات العمر من طفل إلى مراهق إلى شاب إلى كهل إلى عجوز.   

خاص: نساء سورية

في متوالية الحزن والفرح تغتسل  في تلافيف الدماغ أشياء  صغيرة كانت قد ابتليت بأوساخ التقدم بالسن  وتبدلات العمر من طفل إلى مراهق إلى شاب إلى كهل إلى عجوز.     
ما أن تحزن أو تفرح حتى ترى صورتك في زمن ما ولو لومضات فتقوم بفعل تستدرك بثوان أنه فعلك أو إحساسك  عندما كنت صغيرا أو عندما كنت في فترة ماضية نسيتها أو كدت.
عندما استمعت ذلك اليوم إلى عزفه المنفرد على العود في بيت دمشقي من بيوت الشام الجميلة تسربت الي صور هجرتني  منذ زمن.
 رأيت نفسي عندما كنا نجلس  مع أخوتي وأولاد عمومتي في فسحة الدار في قريتنا الجبلية والليل بأوله  في أيام آب حيث  كنا نتحلق حولها "جدتي" تلك الموجودة في الحكايات عجوزا ترتدي على رأسها غطاء ريفيا تسترخي تحته جدلة بيضاء جدتي التي كانت تبدو  كبيرة جدا  تحتل المكان كله  لتجمعنا في حضنها الملئ بالأسرار  فقد كانت تعرف كل شيء تعرف سر علي بابا والأربعين حرامي  تعرف أين تخبئ سلمى  مشطها المسحور وأين يعيش القزم الشرير، تعرف حل الألغاز كلها وفي جعبتها الكثير الكثير   كانت سرا كبيرا  وتعرف حكايات العالم كلها وتروي لنا في كل يوم حكاية بصوت لا تنافسه أصوات الحكواتية في جميع الكتب التي قرأتها  وجميع الأفلام التي حضرتها.
كنا نقترب منها والأفضل الأعقل الأكثر تهذيبا هو الذي يحظى بالالتصاق بها أما المشاكس فكانت الحكايات والتعليمات التي تأتي بها موجهة إليه  ليخجل ويتوعد بالتغيير.
كنا بعد جلوسنا معها  وإلحاحنا حتى ننام بالمزيد من رواياتها نحلم ونشطح بالخيال  ليصر أحدنا في صباح اليوم التالي أنه ذهب إلى جبل السندباد  ورأى قصر سلمى وقتل المارد المجنون ويؤكد آخر أنه هو الذي قتله في رحلة حقيقية قام بها بينما الكل نيام.
لن أتكلم عن رائحة جدتي التي تشبه رائحة الضيعة كلها ولن أتكلم عن عينيها اللتان تفيضان حبا وصبرا  ولا عن   ولاعن   بل سأتكلم فقط عن الاطمئنان الذي يبعثه إلينا جلوسنا جوارها وصوتها فلا وحوش  العالم تستطيع الاقتراب منا ولا أمهاتنا أو آبائنا يتجرءون على تأنيبنا أو أخذنا إلى النوم حتى الشيطان نفسه كان لها قوة على توجيه  اللوم إليه ومغادرته المكان.
ذلك الاطمئنان كان له القدرة على تزويدنا بطاقة نختزنها عاما كاملا إلى أن نلتقي بها في صيف مقبل .
وفجأة علت أصوات التصفيق التي أيقظتني فعادت بي من الحلم إلى الحلم الآخر  إلى تلك المعزوفة على العود التي كان يدندن بها (أحلام).
ربما هو انعكاس المشاعر الباعثة على الاطمئنان  ربما هو الحلم ربما رائحة المكان ربما كل ذلك عاد بي إلى تلك الليالي الصيفية الجميلة في حضن جدتي فجعلتني أغفو لثوان.


  


التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon