الأم-الابنة.. علاقة من الجحيم

خاص: "نساء سورية"
ترجمة: رندة الديك

ما من علاقة انسانية أكثر تعقيداً أو تناقضاً من تلك التي تنشأ بين الأم وابنتها. كل شيء يُؤالف بينهما وكل شيئ يباعدهما. هذا الكلام صحيح منذ الأزل. إلا أن فتيات هذه الأيام يحتجن إلى جهود مضاعفة ليستطعن مواجهة أمهات ترفضن الشيخوخة. هذا لأن المرأة بحد ذاتها قد تطورت بشكل ملحوظ. ولكن صورة الأم، بالمقابل، لم تتغير قيد أنملة.
كي لا نعيد إحياء أي جرح ما، سندعوهن جاكلين وايزابيل: جاكلين الأم, في الخمسينات الرائعة من العمر, لا مثيل لها في فن تقديم فتياتها. لطالما تدربت على هذا الأداء: أقدم لكم جويل, البنت الصغرى, جميلة.. لكنها ليست موهوبة في الدراسة. أما البنت الكبرى ايزابيل فهي لامعة، ولكن الطبيعة لم تدللها كثيراً! لقد عرفنا جاكلين أماً كباقي الأمهات تجيد فن تبطين الكلام المعسول بمعنى خبيث، وتغليف الخداع بلباس المجاملة، واستخدام المديح بغاية النقد الجارح. نتج عن هذا أن ايزابيل، ابنتها البكر، قد تعلمت بالتدريج صقل أسلحتها لمواجهة براعة كهذه. وهكذا تُقاطع ايزابيل بحركة من يدها ضحك والدتها أمام مدعويها قائلة: كفى يا أمي! ضحكك هذا يطابق تماماً الضحك الذي أسمعه في كوابيسي. وتستطرد الفتاة لتحكي عن العيون المحاطة بالسواد، وعن لياليها المليئة بالهذيان حيث يأتي باستمرار وحش ليعذبها على وقع ضحك أمها المتآمر.
في تلك اللحظة بدأت حياتهما كنساء. وبدأت مواكب من النزاع والنقد المرير والابتزاز المراوغ. تتمنى ايزابيل أن تصبح يوما ما مضيفة طيران: إنها فكرة رائعة يا عزيزتي.. لاسيما أن الفتاة الآن لا تحتاج لأن تكون طويلة القامة ونحيلة حتى يتم قبولها!

ياه ان عمرك يخونك
تدعو ايزابيل رجل حياتها للمرة الأولى لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في المنزل العائلي.. عند الفطور، وضمن جو من الصمت الجليدي، تنبري جاكلين قائلة: ألا ترين يا عزيزتي أنه يجب أن تقومي بشيء ما لمعالجة هذه الحبوب التي توجد على ذقنك منذ وقت طويل؟ أن يكون لديك حب الشباب في هذا العمر لهو أمر يدعو للتساؤل! ألا توافقني الرأي بول؟....
أخيراً وجدت ايزابيل فستان العرس ولدهشتها الكبرى كان الفستان يلائمها: "ياه! ألا تعلمين يا عزيزتي أن كل الفتيات يبدون جميلات يوم عرسهن؟! حتى الدميمات منهن؟! فلم لا تكوني أنت أيضا جميلة؟!".
مرت سنوات عدة، ثم تأتي ايزابيل لتمضية نهاية الأسبوع قرب والدتها. وفي أثناء وقوفها في حوض الاستحمام تدخل والدتها وتستند إلى المغسلة ثم تبدأ بالحديث عن أشياء عدة، مثبتة نظرة فاحصة على ابنتها، وتقول فجأة: "يا عزيزتي إن عمرك يخونك!". "وأنت أيضا أماه!" تجاوب ايزابيل: إذن لقد كبرت جدا!!!
على الرغم من أن هذه الرواية قد صيغت من عدة نوادر معاشة فهي مبالغ بها. مبالغ بها بالطبع لأن هذه الفواصل قد تخللتها سنون من التواطؤ العذب والتقارب الحار، ولحظات من المشاركة الحميمة. لقد كانت هناك الحياة العادية بين الأم وابنتها. حياة من الصعب الحديث عنها طالما أن السعادة تفتقر لكلمات تزدان بها. ولكن خلال هذه اللحظات الجيدة هناك فقط تلك الدقائق الخمسة عشر السيئة حقا. ليست خبيثة جداً، لكنها من المرارة بمكان لتشير إلى وجود علاقة قوة كامنة.
وهذا بالفعل ما يتم بين الأم والابنة: تناوب من الاتصالات الهاتفية المقلقة، من التعذيب النفسي الرفيع إلى جانب تلك الأطباق المطهية بعناية فائقة أيام العطلة. فبين "الطاسات الباردة والطاسات الساخنة" يبقى هذا الثنائي الجحيمي حكاية امرأتين متشابهتين متواطئتين ومتنافستين.

مدة إرضاع الفتاة قليلة نسبيا
إن الواقع بعيد كل البعد عن تلك الصورة اللطيفة التي يحاول رجال الدعاية والإعلان إيهامنا بها: الأم يناهز عمرها 40 عاما والابنة عشرون. كلتاهما شقراوان ونضرتان تتشاركان ذات المرهم الملطف. الخدان متلامسان تقفان أمام الكاميرا كي تتفاخرا بالخصائص المطرية لكريم "أويل أوف أوليز"! بعيدا عن الشاشة نتخيلهما يدا بيد تغزوان التنزيلات لتشتريا بعض التيورات الجميلة لدى "أنياس" والتي ستلبسانها كلا بدوره. أما الحقيقة هي أقل حلاوة من هذا بكثير!
"في عيادتي تتحدث النساء عن الحب, عن الأطفال، عن القلق, وعن العمل", هذا ما تشير إليه كورنيليا سمودلاكا, أخصائية علم النفس ومدرسة علوم التربية في جامعة باريس 3. ولكن العلاقة الأساسية بالأم تضفي نغمة خاصة وهي التي ستكون الخيط الأساسي لحياكة القصة. إن العلاقة بين الأم وابنتها تؤدي إلى أعمق أغوار المودة. فما من تحالف إنساني أكثر التحاما ,أكثر انصهارا أو أكثر تكافلاًً من تلك العلاقة. وعندما تلد الأم ابنتها تعطي العالم ذاتاً أخرى، وتعي تماماً انه لا بد أن تنقل لهذا الطفل أسرارها كامرأة, ذلك الموروث الصامت الذي تؤتمن عليه. بالطبع، لو كان ذلك الطفل ولدا لكانت أفعمت بالسعادة. ولكن علاقتها لن تصل مطلقا حد الالتحام والتشابه المطلق الذي يصلها بابنتها.هذا الارتباط الحتمي يبقى غامضا مع كل ذلك.
ما يزعج الأم هو هذا الوجود الفيزيقي لهذا الكائن الصغير الذي من نفس جنسها ولكن دون أن نضيع في المتاهات الفرويدية لعلاقة كامنة بين مثليي الجنس والتي يصعب تحملها. يبقى لنا أن نقول أن مدة الرضعة التي تمنحها الأم لطفلها الذكر تبلغ خمساً وأربعين دقيقة وسطيا، في حين تبلغ رضعة الفتاة خمساً وعشرين دقيقة فقط. كما أنهن يوقفن الإرضاع للفتيات عند بلوغهن العام الأول, أما للأطفال الذكور فيستمر الإرضاع إلى عمر خمسة عشر شهرا.

قصة حب فاشلة
إن الارتباط بين الأم وابنتها هو ارتباط غير كاف بنيوياً. وهذا ما تفسره كورنيليا سمودلاكا قائلة: إن الفتاة الصغيرة تتخيل أمها كائنا قادرا على كل شيء، ولا يفوته شيء البتة. ومن ثم تدرك أنه لا بد أن هذه الأم ينقصها شيء ما طالما أنها تتركها لصالح الأب. وهكذا تتضاعف خيبة أمل الفتاة. أولاًلأنها كانت توجه حبها إلى أم تعتبرها كاملة، بالتالي تجد نفسها معنية هي أيضا بهذا النقص. وقد يأخذ هذا الجرح النرجسي وقتا طويلا قبل أن يندمل. إن الحياة بين الأم وابنتها تبدأ بقصة الحب هذه التي فشلت.
لا توجد علاقة إنسانية أكثر تعقيدا أو تناقضا من تلك التي تنشأ بين الأم وابنتها. تقص علينا جيني التي تبلغ من العمر أربع وعشرون عاما، وهي الطالبة في علم النفس: "لقد عشت مع والدتي في أثناء طفولتي. إن لديها شخصية قوية وهي مسلية جدا و واسعة الثقافة. لقد كنا متقاربتين جدا. ومن ثم عندما بلغت 15 عاما بدأت أتألم من صورتها. لم أستطع أن أثبت وجودي, كنت دائما في الظل. لذا اضطررت أن اقتلع ذاتي منها عندما بلغت السابعة عشر عاما". وبعد أربع سنوات, تعود جيني ساكنة النفس لتقطن استوديو فوق شقة والدتها."إن بناء الهوية يمر حتما بالتمايز, حسب باتريك بواسون وهو يعمل كمعالج في مركز الدراسات السريرية للاتصالات العائلية. فمع أحد الوالدين الذي هو من جنس مغاير هناك اختلاف حتما, اما مع الأهل ذوي الجنس المماثل وخاصة بين الأم والفتاة هناك تشابه بالتأكيد والذي سيصطدم مع مرور الوقت بالضرورة الملحة ليصبح اختلافا. إن هذا النزاع المحتم هو الذي يجعل من"الساغا"*، الأم / الفتاة، متوالية من اللقاءات والطلاقات.

كان كل الرجال ينظرون إليها!
فوجىء أخصائي المعالجة عندما أتت ميشلين تلك المرة للمعاينة برفقة ابنتها ذات الخمس وعشرين عاما. كان قد اعتاد على رؤية ميشلين مفرطة الشباب. فهي، رغم الثلاث وأربعين عاما، لا ترتدي سوى جينزا وأحذية مسطحة، مع شعر مسدول. لكنه الآن يرى ابنتها، التي تتدرب على التمثيل، تحاول أن تعطي بأناقتها المبالغ بها صورة مغايرة عن والدتها. ويتذكر الأخصائي أنه عندما جلست الاثنتان استمع إلى نقاش لا يقبله العقل. حيث شرعت الفتاة توبخ والدتها لأنها تدخن كثيرا وتهمل نفسها وتخرج كل مساء دون أدنى ترتيب لأشيائها. هذه الحالة التقليدية تفسّر بمحاولة فرض الوجود عن طريق الاختلاف ومعارضة الآخر.
يلاحظ أيضا أن على الفتيات في هذه الأيام مضاعفة جهودهن لمواجهة أمهات ترفضن الشيخوخة. فمنذ بداية نضال الحركات المؤيدة للنساء, نحيا في فترة تغير سريع في تمثيل المرأة, في حين أن صورة الأم لم تعرف سوى تطوراً قليلا. وهكذا حين تكتشف إحداهما الإغراء تكون الأخرى لا تزال تقوم به وتسعى جاهدة للحفاظ على هذه الميزة. وهذا ما شعرت به فرانسواز، وهي طبيبة في "أنغوليم"، إذ تقول: "ذات يوم كنا سوية، وكانت فيرجيني تمشي إلى جانبي. كانت نزهة غير محتملة! كل الرجال كانوا يحدقون إليها أثناء مرورها! كانت جميلة جدا في عمرها ذاك. رشيقة القوام. ولكنها لا تدرك قوة الإغراء التي تملكها. أما أنا فشعرت فجأة أن حياتي العاطفية قد انتهت، وبدأ دورها هي من الآن فصاعدا. لحسن حظي التقيت بصديقي في هذا الوقت بالذات!!!

"عرض" الأم / الصديقة
المنافَسة موجودة سواء كانت معلنة أم لا. منافسة متلازمة بين اثنتين متلازمتين يمكن لها أن تصل إلى حد "الفعل المنقوص"! مثل ذلك مثل تلك الأم التي أتت بصحبة ابنتها لعيادة المعالج النفساني. وصف الأخصائي للفتاة الشابة حبوب منع حمل، أما للأم فقد أعطاها علاجا هرمونيا لفترة سن اليأس. بعد مرور يومين تسارع الأم بالاتصال مذعورة, لقد عكست الوصفات. رغبتها اللاشعورية بحرمان ابنتها, تلك التي ظهرت فجأة كمنافس لها, من حقها بالحياة الجنسية الكامنة تستطيع أن تقودها إلى أقصى حدود المبالغة.
وتتذكر دلفين أيضاً، الأستاذة في التربية الدينية في ثانوية في باريس: "عندما كنت في الحادية عشر من عمري كان محيط صدري يبلغ 85 سم. وكنت أتقبل هذا بخجل لأنني كنت أرى نفسي كأمي وجدتي اللتين تنعمان هما أيضا بصدر كبير! ولكنني لم أكن أشتكي ولم أقل شيئا. وفجأة، عندما بلغت السادسة عشر من عمري، حطت أمي في غرفتي يوماً وقصت لي أن بالإمكان الآن إجراء عمليات جراحية لتصغير الثديين! حصل هذا فعلا بعد مرور شهرين. فبدلاًَ من أن تعلمني كيف أحب جسدي، اقتصت منه! إن موضوع قبول الأنوثة عند الفتاة أصبح أكثر حساسية من ذي قبل. خاصة أن مجتمعنا لا يقوم بأي نوع من طقوس الانفصال بين الأم والبنت. إنها عملية نضوج بطيئة وليست طقسية. أما فرانسوا هريتييه فيذهب بعيداً ليقول أن هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى إنشاء علاقة محرمة. فالأم والابنة تستطيعان أن تغويا ذات الشخص وفي ذات الوقت. هل هذا كلام مبالغ به؟ طبعاً لا. في كتابه "الموعد"، وهو عبارة عن سيرة ذاتية بأسلوب روائي، يقص علينا جوستين ليفي كيف أن "أليس" الأم عندما ذهبت لتلاقي ابنتها في مقهى، أتت متأبطة ذراع ممثل شاب كان حبيبها في تلك الفترة. وعندها شرعت، بلا كلل، بالمفاخرة بجمال ساقي ابنتها وبشامتها وباكتناز صدرها أمام فلوران, وذلك لتدفعهما، بكلمات مبطنة، لأن ينجذب الواحد للآخر! ولكن الفتاة ترفض الدخول في هذه اللعبة الثلاثية المرضية.
بعض الأمهات يقمن أحياناً بإغواء أصدقاء فتياتهن, ببراءة! هذا ما يعتقدنه: "لقد كانت أمي تشجعني دائماً على دعوة أصدقائي للمنزل.. وما أن يصلوا حتى تلازمنا كل الوقت لتلعب دور "المزوحة" ولتقوم بدور الأم الصديقة! مع العلم أنها لا تكون عادة بهذا اللطف عندما نكون وحدنا! بالرغم من كل المنافسات والمنازعات يبقى الرباط قائماً. ذلك وبكل بساطة لأنه ضروري. فبعد فاصل التحرر من الوصاية تعود الفتاة لتفتش عن أمها: "عندما تستقر الفتاة خارجاً تنفّذ تدريجيا نظاما منزليا يقتبس أجزاءً من مرجعية طفولتها"، هذا ما يفسره جان كلود كوفمان في كتابه "الحبكة الزوجية". إن اقتناء المكواة يرمز للتقرب باتجاه الأم. فبعد هامش كبير تتبنى الفتاة حركات الأمومة. فها هي تكوي وتنشي وتطوي الغسيل.. تماما كما كانت تفعل نساء عائلتها". ومن ثم تجد مكانها في مجرى استمرارية النساء.

حكاية الفتيات الثلاث الصغيرات
حتى لو كان انتقال الدور العائلي والمنزلي اليوم أقل وضوحاً، فإن الحاجة لهذا الإرث تربط الفتاة بأمها بشكل حتمي. تنتظر الابنة من تلك التي تكبرها أن تطلعها على أسرار هذه المجموعة العملاقة من الرموز والوصفات، وأن تمنحها إياها لحياتها كامرأة. هذا الموروث هو عبارة عن "أسرار النساء" وهو عنوان الكتاب الجديد لبرتران كرامر, أخصائي علم نفس الأطفال. في هذا الكتاب يسرد حكاية ثلاث فتيات وأمهاتهن: غوين, في الثانية من العمر, رائعة ولكنها ترفض أن تأكل متململة أمام صحنها. صابرينا لها من العمر أربعة عشر شهراً, تمر ساعات وساعات قبل أن تستسلم للنوم في سريرها ذي القضبان. أما صوفيا، ذات الأشهر التسعة، فتستيقظ باكية في كل الليالي. أمراض مألوفة، ما هي إلا حكايات بنات صغيرات. إلا أن برتران كرامر عندما يصغي لأمهاتهن يعود شيئاً فشيئاً إلى جذور الهوية الأنثوية ويدرك أن تلك الفتيات هن مريضات بمرض والدتهن.
إذا كانت غوين قد امتنعت عن الأكل فذلك لأن أمها، من دون قصد, تفرض على الطفلة نظام تقشف كانت تتمنى لو استطاعت هي بالذات القيام به. إن هذه الأم قد داعبها عمها أثناء طفولتها فتعلّم ابنتها غوين تحريم اللذة وفرض السيطرة على النفس لتجنب أي انجذاب جسدي إليها. وهي إذ تقوم بذلك فلأنها معتقدة بأن هذا يجنب غوين من معاناة ما عانته في صغرها: على ابنتها أن تكون نحيلة مخنثة حتى تعجز عن الإغراء."إن كل أم تعمل جاهدة وبتصميم وثبات على أن تقود ابنتها إلى مواقف ناتجة عن أيديولوجية دقيقة".هذا ما يعلق به الطبيب النفسي. وإن هذه الأيديولوجية المفروضة أدى إليها تاريخ طويل تختلط به طفولة الأم وحياة الجدة وجدة الجدة. وهكذا, فإذا كانت صابرينا ترفض بعناد النوم في السرير ذي القضبان فهذا بالنسبة للطبيب لأن أمها قد علمتها منذ الولادة التأكيد على حرية شرسة , والدفاع عن استقلاليتها حتى تكون جديرة بتاريخ جداتها الرائدات الأوائل في الشمال الكندي الكبير.

طريقة الاستخدام يهمس بها
نتساءل، وبقليل من الذهول: كيف لطفل لم يتجاوز الأربعة عشر شهراً أن يدرك أن عليه الهروب من سريره ذي القضبان كي يرضي جداته اللواتي اختفين منذ زمن بعيد؟!. "إن هذه الأسرار تنقل بشكل دائم عبر أقل حركة أو ابتسامة أو كلمة", هذا ما تؤكده المحللة النفسية, كارولين الياشيف. ولكي يحيط بكل شيء، حتى غير الملموس، يلجأ برتران كرامر إلى تصوير جلساته. ويا له من تسجيل مفيد!..... ذات يوم، في أثناء محادثته مع انطوانيت في عيادته... تلتقط الصغيرة غوين لوح شوكولا من حقيبة والدتها. فإذا بالوالدة تقطع حديثها وتلتفت نحو ابنتها.. وخلال عشر دقائق حاولت أن تمنعها من التهام تلك المربعات الملعونة بتنبيهات خفيفة. يقول المحلل: "في خلال إحدى عشر دقيقة, نحصي ثمانية عشر تحذير أمومي موجه ضد امتلاك وابتلاع الشوكولا! كانت تلك التحذيرات شفهية تارة وطوراً حركية... إنها عبارة عن مشروع تربوي حول تقشف غذائي منهجي لا يمكن تجنبه! إن تربية الفتاة الصغيرة تخضع لعملية إرسال هذه الرسائل السرية... لتقول لها خفية: "ألا ترين كيف يجب أن تصبحي امرأة؟! كيف يجب أن تتعاملي مع الرجال؟!". إن طريقة التعامل تلك والتي يُهمس بها همساً لا تقتصر على النصائح الأنثوية عند سن البلوغ، ولكنها لا تنفك تلازم الفتاة منذ الطفولة حتى سن النضوج.

معركة خاسرة مسبقاً
تبدو ثقيلة، هذه المعركة، على إمكانية حمل عبئها. أوديل في الأربعينات من عمرها. وهي أم لفتاتين في سن المراهقة. تعتمد في تربيتها لفتياتها على إرادتها بعدم إعادة تلك التربية التي أعطتها لها أمها. "لقد عاشت أمي دائماً من خلالي... كان نظرها يقع دائماً عليّ حتى على أدق تفاصيل حياتي الخاصة.. نتيجة لذلك أحاول جهدي أن لا أتدخل في حياة فتاتي, أحاول أن أحترم خصوصيتهما فلا أدخل غرفتهما من دون أن أطرق الباب. يتطلب هذا مني الكثير من الجهد, ألزم نفسي بألاّ أقوم بما قامت به أمي... حرب دائمة بين ذاك الإرث الذي صبغنا وبين هذا النموذج الذي نرفضه... بين الفتاة التي كنّا والمرأة التي نريد أن نكون". تقول كارولين إلياشيف بصدد ذلك: "لقد ُصعقت من عدد النساء اللواتي يحاربن كي لا تكرر صورة أمهاتهن! مع أن كل خلية من جسدهن تحمل طابع والداتهن. إن هذا الصراع الذي يتنكر لإرث الأم ما هو إلا معركة عقيمة... لأنها خاسرة مسبقاً. وتقبله لا يعني مطلقاً أن الفتاة ستصبح كأمها. هذا لأنه ليس للأم والفتاة الأب ذاته.. كما أنّ بإمكاننا تحضير أطباق مختلفة من المقادير ذاتها.

لعبة ممثلي السينما المذهلة
ليس هناك ما هو أسوأ في الحقيقة من أن لا تتلقى أبداً هذا الميراث. فعندما لا تتم عملية النقل تلك تتألم الفتيات كثيراً. دورثية، في السادسة والعشرين من العمر, علمت عندما كانت في سن الخامسة عشر أن أمها مثلية الجنس. "منذ ذلك الحين انقطع أي تواصل بيننا, كان هذا كإنكار لوجودي الخاص! فإن كانت مثلية الجنس فهذا معناه أنها لا تستطيع أن تكون أماً! وبالتالي كنت أنا عبارة عن غلطة! شعرت بحرماني من كل هذا الميراث الأنثوي الذي كنت أحتاج إليه.. والذي لم يستطع والدي إعطائي إياه، رغم أننا كنا مقربتين كثيراً. أفتقد دائماً لهذا العلم الذي تنقله الأم لابنتها. فإذا بي أبحث عن التعويض: أقرأ بشغف نصائح الجمال في المجلات.. لكن هذا لا يكفي.. إذ لدي شعور دائم بعدم المعرفة"... إنه نقص مؤبد... إن "سيلفي" التي تركت أمها المنزل العائلي عندما كانت في الثانية من عمرها تقول قلقة بأنها ليست امرأة كفاية من أجل الفتاة الصغيرة التي تنتظرها. "سوف أشرح لها باكراً أسرار الأنوثة, سوف أقول لها بأنها جميلة حتى تعجب بنفسها. لا أريد لها أن تقلق كما كنت أفعل عندما أرتدي الميني جوب مع الجوارب النسائية".
إن هؤلاء الفتيات اللواتي يعين أن لديهن نقصاً يجب تعويضه يبحثن طوال حياتهن عن أمّ. إنه بحث يمكن فهمه بسهولة. بالمقابل، وهو ما يبدو شديد الغرابة، الفتيات اللواتي يكبرن بقرب والدتهن هن أيضاً ينطلقن في البحث ذاته عن أمٍّ. على سبيل المثال, لم تستطع دلفين أن تمنع نفسها يوم تعيينها في منصب مدرّسة عن أن تزف الخبر لأمها قبل الآخرين، على الرغم من علاقتهما التنازعية. فتحتم عليها أن تبتلع خيبة أملها في تلك المجاملة......... "الشيء الوحيد الذي استطاعت قوله لي، في حين كنت أنتظر تلك اللحظة منذ عشر سنوات, هو التالي: هذا جيد! سوف تتوقفين إذاً عن المنافسة". وضعت سماعة الهاتف, خائبة, مثل المعتاد". تعلّق على هذا كورنيليا سمودلاكا قائلة: "إننا لا نقيم الحداد أبداً على أمٍ مثالية , نحب الاعتقاد أن بإمكاننا إعادة خلق هذه الجنة المفقودة, هذه (الكمالية الزمنية الخرافية)". حيث لا تزال تتحقق كل الرغبات كما في حكاياتGrimm. ولهذا نعود بلا كلل ناشدين الاستحسان لدى الأم. باحثين عن اعترافها بنا، وقناعتها ومجاملتها. ولكن تلك الأم لا تستطيع القول لابنتها بأنها راضية عنها لكونها تعلم مسبقاً أن تلك الفتاة صُنعت مثلها... أي غير كاملة!
إذن تذهب الفتاة بعيداً للبحث عن هذه الأم الخرافية التي تنتمي للطفولة. ولغرابة الأمر تبحث عنها قرب المحبوب! "لطالما استمتعت وأنا أرى لعبة الممثلين المشهورين الذين يتبنون ملامح وخصائص ومواقف أمومية صرفة. فعلى سبيل المثال, (جون واين) في فيلمه (سجينة الصحراء)، وفي لقطة اجتيازه مجرى نهري، يضم بين يديه فتاة وكأنها طفل صغير! في هذا المشهد يجسد صورة أمومية تقليدية. أما مع (أرنولد شوارزينجر) يبدو الأمر أكثر وضوحاً... ففي فيلم (أكاذيب صادقة), يطير في حوامة فوق جسر على وشك الانهيار. وفي تلك اللحظة، تقود زوجته سيارتها على ذات الجسر, يرى أنها سوف تقع في الماء فبدلاً من أن يتصل بها بـ(التوكي وكي) ليأمرها بالوقوف حتى تتجنب السقطة المحتمة ينزل بحوامته ليمد يده لها ويرفعها إلى داخل الحوامة. وهكذا, إن هذا التصرف بالنسبة لأي محلل نفسي ما هو إلا تصرف أمومي وذلك لأن الأب كان لأمر بأن تفرمل. أما الأم فكانت لتقوم بالأمر ذاته.

أم... جنية.... ساحرة
إن الرضى الذي لا يمكن اكتسابه من الأم والذي لا يمكن للرجل أن يعطيه بشكل كاف سوف يكون المحرك في حياة الفتاة. "فعندما تؤكد الفتاة وأمها أنهما تعيشان حياة منسجمة تمام الانسجام, أتساءل أين يكمن الوجه الآخر للعملة. لكي تصبح الفتاة امرأة يجب أن تكون لها القدرة على تخيل أمها تارة جنية وطوراً ساحرة.. تحبها مرة وأخرى تكرهها. إن اختلافات الصور والمشاعر هذه، هي التي تُغني علاقة الأم والفتاة... يستطيع الانسجام أن يكون مثالياً ولكنه لا يعني الحياة". كما تقول كورنيليا سمودلاكا. إن عدم الاكتفاء الذي يدفع إلى خارج العش، يساعد على إتمام الشخصية ويقود نحو الآخرين. إن الأم المتملكة تسعى دائماً إلى بث الطمأنينة في صدر ابنتها فتمنعها من النضج. وتقول في هذا الصدد "آن"، طالبة في كلية الطب وهي في الرابعة والعشرين من عمرها: "لقد عشنا نحن الاثنتان سوية حياة حميمة، حتى إنها لم تتزوج لرغبتها بأن تكون بقربي. كان عالمها هو عالمي. لقد عانيت كثيراً حتى استطعت أن ابني عالمي الخاص". لنفترض أنها نجحت بذلك، فهي لازالت تقوم بالتسوق في نهاية الأسبوع برفقة والدتها. أما كارولين إلياشيف فتعتدل بتحليلها لتقول: "يجب ألا نعطي هذه العلاقة طابعاً تشاؤمياً. فإذا ما توصلت الفتاة والأم إلى وضع مسافة مقبولة من الطرفين فإن علاقتهما تكون بجودة مبهرة.... إن علاقة منسجمة بين الأم والفتاة لا تعني أنها خالية من النزاعات... إن هذا هو ذروة العلاقات الإنسانية" إنه نتاج حياة.

*- ساغا: كلمة تطلق على الحكاية الإسكندنافية ذات الطابع الميثولوجي وتتضمن أيضاً معنى حكاية دائرية لا منتهية.
مجلة "لو بوان"، بتاريخ 27/12/2005

6/5/2006


  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon