الزوجة والأم

طرح مرة باحث عربي جملة من الأسئلة في جامعة أمريكية أهمها قصة يسأل الطلبة رأيهم فيقول لو كنت تركب زورقا مع أمك وزوجتك وأثناء ذلك هبت عاصفة هوجاء أتلفت المركب وأنت في النهاية باستطاعتك أن تسبح إلى الشاطئ وتنجي واحدة فقط. فأية منهما تأخذ وأي تترك تغرق.
سؤال غريب ومدهش أو قل أنه طريف. كانت غالبية الإجابات تركز على ترك الأم تغرق في اليم وينتفخ بطنها من جراء ابتلاع المياه وإنقاذ الزوجة . هذا الباحث وجه نفس السؤال إلى طلبة عرب في جامعة عربية في الضفة الغربية، فكان الجواب بغالبيته إنقاذ الأم وترك الزوجة تتجرع مياه البحر وتتحول إلى بالون ومن ثم إنقاذ الأم . السؤال بحد ذاته قد لا يكون واقعي إلا أنه يرمي إلى منظومة هائلة من القيم الأخلاقية المتباينة مابين المجتمع العربي والأمريكي.
هنا سأترك التحاليل الاجتماعية التي يرمي إليها الباحث لأروي قصة أخرى . فعندما كنت طالبا في الجامعة كنت أعمل سائقا في شركة أدوية أوصلها إلى البيوت وإلى مصحات العجزة، فأتاح لي هذا العمل أن أدخل البيوت والمصحات . كنت أتردد على إحدى دور العجزة فأرى عجوزا في الهزيع الأخير من عمرها قعيدة في كرسي متنقل تنظر إلى الذاهبين والغادين دون ملل ودون أي تغير في تعابير وجهها. إلا أنك ترى حزنا في النظرات الساهمة والتجاعيد المحفورة في إطار وجهها . فتشدك تلك الواصلة الإنسانية في مشاعر الشفقة والرثاء. ربما لأنك ترى نفسك فيها أو ترى فيها إنسان مثلها عزيز عليك فكنت أسّلم عليها في كل طلة وهي تستحسن ذلك إلا أنها لا تغير نظراتها الثابتة الحزينة.
مرة دخلت المصحة فلم أر العجوز ولا كرسيها الآلي ، كان المكان شاغرا فتضخم في نفسي فضول السبب . فسألت أحد الممرضات فردت دون اكتراث بأن العجوز ماتت في الأسبوع الماضي بشكل فجائي. لكن إحساس غريب سيطر علي رغم أن لاشيء يجمعني وتلك العجوز من قرابة أو تاريخ. وتابعت الممرضة وهي متلهية بأوراق حولها: لم يأت أولادها ليتسلموا الجثة . فسألت كم ولد عندها، فقالت ستة ، أثنين في السجن ، احدهما قتل زوجته والآخر قتل أبوه، والآخرين لا نعلم عنهم شيئا. قتل في قتل هل هي مدينة الغاب هنا. هل هذا حرش أمريكي ، هي ربما نجت في هذه المصحة التي أسلمت حياتها للوحدة.
مابين الحدث وبحث الدكتور العربي تختلط الأمور وتصبح عصية عن الحل. الشاب قتل زوجته ولم يغرقها إلا أنها ماتت، والآخر لم يغرق زوجته بل قتل أبوه، وطبعا الأسباب لا نعرفها. والآخرين موزعين في أرض أمريكا الواسعة.
خرجت من البناية وركبت سيارتي وقد انفلتت في داخلي مجاميع من الأحاسيس المضطربة ، وعندما وقفت على إشارة المرور قرأت على مؤخرة سيارة كانت أمامي (هذه بلد الحرية فحافظوا عليها) وقد رسم إلى جوار العبارة تمثال الحرية الذي أهدته فرنسا الولايات المتحدة.

9/4/2006


موقع مرآة سورية 

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon