إعاقة.. ولكن..!

 خاص: نساء سورية 

كان بيتنا يتكأ على أضلاع جبل يستيقظ فيه الخوف ويبدأ تجواله مع هبوط الليل انحداراً باتجاه القرية. وكانت محاولاتي للنوم والتخلص من ذلك الخوف القادم دون محالة، تبوء بالفشل في كل مرة، إذ سرعان ما تتبعني جملة من الكوابيس المرعبة وتقض مضجعي. وكانت أمي تراقب بألم ما يحدث لي وتذهب سراً إلى الشيخ ليصنع لي حجاباً. وتضعه بعد ذلك تحت وسادتي لتحميني من هلوستي اليومية.
أمي ذات القلب الطيب جداً، وقبل أن تضع "الحجاب" الخاص بي تحت وسادتي، كانت تزرع الخوف في قلبي: -سيحرقك الله بالزيت المغلي إذا ما فعلت كذا..-! لذلك كانت جهودها في شفائي تذهب هباءاً!
وأنا كنت عاجزة عن مساعدة نفسي التي لم أكن لأنال شرف التعرف عليها وهي محاطة بكل ذلك الذعر!
لكنه فعلها ذات يوم و-مشي الحال-:
جارنا المقعد لخمسة عشر عاماً بعد إصابته بحادث أليم.
جارنا الذي عشقته فيما بعد مع صغر سني -ست سنوات-! ومع أنه كان يكبرني بثلاثين سنة!
ذلك العشق الغريب الذي أخذني إلى عالم آخر وأنا لا أكاد أعرف تهجئة الحروف.
فما أن أعود من جولتي الصباحية لقطف الفاكهة والخضار مع أمي، حتى أملأ جيوبي بتلك الفاكهة وأركض بجنون إليه تحت وابل من تهديدات أمي ووعودها بالحرمان من كل الأشياء التي أحبها.
لكن أحداً لم يكن قادراً على إيقافي..
كان يجلس دائماً في تلك الزاوية، بعيداً قليلاً عن الطريق، حيث كان يتربع بعظمة -جرن القمح ومدقته الفولاذية-.
يومها، أجلسني على قدميه العاجزتين وحدثني لوقت طويل، كان كلامه حينها كالطلاسم بالنسبة لي، لكنه شفاني بسحر صوته وسحر عينيه وهو يتحدث إلي بهدوء وانسياب يشبه أول نسمات البحر مع أول الريح. حدثني عن حبه للحياة -رغم الوحدة التي يعيشها- وعن قراءاته المتواصلة التي تأخذه كل يوم إلى عوالم لم يطأها أبداً، ولن يتمكن من ذلك بسبب إعاقته أولاً وفقر حاله ثانياً.
وفاجأني أكثر عندما أكد لي أنه لا مكان للخوف في قلبه! وأن المعرفة تطرد الأشباح والكوابيس!
هكذا، بوجوده إلى جوارنا توارى الخوف نهائياً.
لكنه ما لبث أن عاد ثانية بعد أن توفي "صديقي" الحميم! ولم أكن قد تعرفت بعد على فلسفة الموت. ولم يكلف أحد نفسه عناء التبسيط والشرح لي. عرفت فقط أنه اختفى إلى الأبد، وأنني لن أتمكن من ملامسة ساقيه الضامرتين والدافئتين بعد الآن..
خسرت جبلي العظيم...
وملامح تمردي الأولى ...
وكثير كثير من شغاف القلب...
لكنه تكرر فيما بعد في كل حالات الحب التي عشتها..
وفي كل حالات التمرد والحرية..
مع أنني الآن لا أتذكر إلا بعض ملامحه.... وكرسيه..

2/7/2005
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon