حين أنظر إلى طفلي منهمكاً في محاورة أو معاركة لعبته -وهو لمّا يجاوز عامه الأول إلا منذ بضعة أيامٍ- تغريني محاولة معرفة الأهمية التي يجدها في عمله من ناحية؛ والغاية التي يريد الوصول إليها، من ناحيةٍ أخرى. إن السلوك الطفولي نادراً ما يستوقف الراشد في محاولة تعليلٍ لما يرى، بل إنه -حين يناول الطفل لعبةً ما؛ ليتسلى بها كي لا يزعجه بكاؤه- قد يظن أن الطفل يدرك غايته تلك ويوافقه عليها؛ فينصرف عنه إلى لعبته بدون أي غاية يريدها أو تبرير لما يفعله. إن موقف الإنسان الراشد -بغض النظر عن الدارسين والمختصين- تجاه أوجه السلوك الطفولي، غالباً ما تحكمه دوافعه هو (أي دوافع الراشد نفسه)، وتبريراتها المنطقية -بحسب منطقه هو أيضاً- لما يريد القيام به، دون أن يجهد نفسه في محاولة فهم الكائن الذي ينمو أمامه، والذي ربما يحتاج كثيراً لأن يفهم الكبار مبرراته ودوافعه. ولتتبدل تلك المواقف اللامنطقية للكبار حيال تصرفات الصغار؛ فإن معرفة علم السلوك -كأحد ضروب علم النفس-، وكذلك علم النفس المقارن، وفيزيولوجية الجهاز العصبي؛ في سبيل معرفة تطور الجهاز العصبي، قد تغير موقف الراشدين حيال أوجه السلوك الطفولي المتباينة، بعد إيجاد المبررات المنطقية لتلك الضروب المختلفة من تصرفات الأطفال وسلوكهم. إن أشكال السلوك المختلفة -غريزية كانت أو مكتسبة؛ ككل التحولات التي تصيب التصرفات السلوكية البسيطة والأساسية- تتحول إلى أشكال أكثر كمالاً وتعقيداً، وتتصل اتصالاً وثيقاً بتطور النسل، كما تتصل بنضج البنى والأجهزة الدماغية على مدى فترة الطفولة. ((كما إن بعض السيرورات المنطقية الإدراكية هي نتيجة لتطور زمني دقيق، وأنه من الممكن تحويرها - أو إعاقتها - بإجراء بعض التعديلات في الوسط الذي يحيط بالطفل)). بالإضافة إلى معطيات علم النفس؛ تأتي سلسلة من التجارب التي تتناول فيزيولوجية الجهاز العصبي وتشريحه ((وقد أثبتت هذه التجارب أن مختلف البنى العصبية تنمو كلها وتتعقد خلال الأشهر والسنوات الأولى من الحياة، كما أن عدم توفر بعض ضروب المحرضات أو زيادتها؛ قد تؤدي إلى إعاقة تطور بعض البنى الدماغية أو التعجيل بها)). فبعض أشكال السلوك الطفولي -كما يثبت سبنسر "Spencer "- كاللعب والنشاطات الخلاقة المتصلة به؛ لا تمثل إلا التحرر والتعبير عن الزيادة في الطاقة، وهذ يشير إلى ما للطفولة من مميزات، وللسلوك الطفولي من تبريرات تختلف عن تبريرات الراشدين لسلوكهم، وأن العلاقة بين اللعب والنشاط الفيزيولوجي تكمن في بلوغ الاثنين أرفع مستوى في الفترة نفسها من حياة الإنسان, ونحن إذ نرى بعض التوازن بين التطور السلوكي للطفل؛ وتطور السلالات، نقول موقنين: إن النمو الذاتي للطفل لا يعدو أن يكون إعادة مختصرة لتطور الأجناس، فكثير من الانعكاسات والنشاطات وأشكال السلوك؛ ترتقي نحو الوضوح بشكلٍ واضح. إن نظرة إلى السلوك الجمعي والتقاط الإشارات المتشابهة -والمتطابقة أحياناً- لتؤكد أن أشكال السلوك المتشابهة تأتي كردود أفعال على مؤثرات متشابهة، ويفرق بينها بشكل - يختلف قليلاً أوكثيراً - التكوين الذاتي لشخصية الطفل المتلقي. فالطفل في المراحل الأولى من نموه يكون فطرياً لدرجة تشبه -إلى حد بعيد- سائر الحيوانات، يبدأ - بعدها - تطور الجهاز العصبي من الناحية الذهنية والجهاز المحرك، الذي يتيح للطفل الكشف عن الوسط وتعديله وترك آثاره عليه، وبمعنىً آخر؛ هو يكتسب من الواقع سلسلة من المعلومات التي تعينه على التقدم، وذلك بطريق المحاولة والخطأ، كما يبلغ -أكثر فأكثر- مستوياتٍ تحليليةً معقدة، ويصبح -في هذه المرحلة- الأداة الأساسية للكشف والإدراك ورد الفعل، أي أنه يفقد أبسط مميزات السلوك الفطري الخاصة بالمرحلة السابقة؛ والتي كان سلوكه فيها يشبه سلوك سائر الحيوانات اللبونة، كما يتطور عقله ليغدو أهم وسائل اتصاله بعالم الكبار. إن فهم الكبار -بناءً على ماسلف الخوض فيه- للعب الصغار على أنه طريقة للتباعد والانعزال عن الواقع؛ فهم لا يرتكز إلى أي فهمٍ منصف لهذا العالم السحري العجيب، وفي مقابل ذلك؛ فإن أنواع اللعب المختلفة تمثل ضروباً من النشاط الذي ينجم عن علاقات الطفل بالعالم الخارجي وربطه بالمجتمع، مما يرتب على الكبار أن ينظروا بجدية إلى العلاقات القائمة بين اللعب ونمو نفسية الطفل.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon