لأبٍ واحدٍ .. وبمرضٍ واحدٍ.. تسعةُ أبناءٍ! "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر"

خاص: "نساء سورية"

 حين يبلغُ الابنُ الثانيةَ والعشرينَ من عمرهِ يُرجى نفعُهُ ويُؤْمَلُ دفْعُهُ، لكنني لم أكن أرجو من ابني – حين بلغ ذلك العمرَ – نفعاً، ولا آمُلُ منه دفعاً، فقد كنتُ أنتظرُ نهايتَهُ التي آلَ إليها قبلَ أربعين يوماً من الآن.
ولم يكنِ انتظاري ذاكَ رجماً بالغيبِ، بل نتاجَ خبرةٍ مريرةٍ وتجربةٍ دفعتُ ثمنَها كأغلى ما يدفَعُ في تجربةٍ إنسانيةٍ من ثمنٍ، فقد دفنتُ بيديَّ قبله سبعةَ أبناءٍ كلُّهم ماتوا بالتلاسيميا، وكان شأني معه – قبل موته – كشأني مع السبعةِ الذين صارَ ثامناً لهم .. أصطحِبُهُ كلَّ مدةٍ – راحت تتناقص بشكلٍ مستمرٍ لتنذرَ بقربِ ساعةِ الفراقِ – إلى مستشفى المدينة التي تبعدُ مائةً وثلاثينَ كيلومتراً لتبديلِ دمِه، فصارَ من الطبيعيِّ – والحالُ هذه – أن يلاقيَ المصيرَ الذي لاقاه إخوتُه من قبلِه، وأن أتجرَّعَ معهُ ذاتَ الكأسِ التي تجرَّعتُها معهم.
ليست هذه بداية لقصَّةٍ قصيرةٍ.. إنها فصولٌ متلاحقةٌ من مأساةٍ حقيقيةٍ كنت أستمعُ إليها من أبٍ فاجأني كما فاجأ صحبي.
كنا أربعةً من متطوعين كُثُرٍ في مركز البحوثِ والدراساتِ المستقبليةِ؛ الذي قادَ حملةَ توعيةٍ وطنيةٍ بدأها بنداءٍ عاجلٍ إلى كلِّ بني البشرِ لإيقاف زحف مرض التلاسيميا، ثمَّ أتْبَعْنا القولَ بالعملِ في تعاونٍ بين المركزِ وبين مديريتي الثقافةِ والصحةِ بالرقةِ، وكانت محطاتُنا المراكزَ الثقافيةَ في ريفٍ مترامي الأطرافِ يثيرُ الشفقةَ ويُحفِّزُ على استنهاضِ إنسانيةِ الناسِ للعملِ على النهوضِ به.
حطَّت رحالُنا – قبلَ هذا المركزِ الثقافيِّ – في مراكزَ عدّةٍ، كنا نكتشف في بعضها أمِّيَّةً تامةً من حيثُ المعرفةُ بهذا الداءِ الشرسِ، ومعرفةً بسيطةً به في بعضِها الآخرِ، ومعرفةً أعلى بقليلٍ في أحايينَ قليلةٍ.
وحين دخلنا إلى المركزِ الثقافيِّ العربيِّ في بغديك كان الوضعُ مختلفاً تماماً.. صفعَني منظرُ طفلٍ ((تلاسيميٍّ))، ورغمَ أنَّني لستُ طبيباً؛ إلا أنني – ونتيجةً للخبرة المُكتَسَبَةِ من العملِ في مركزِ البحوثِ والدراساتِ المستقبليةِ، والحملةِ الوطنيَّةِ التي نقودُها لمواجهةِ هذا المرضِ – أصبحتُ أعرفُ الطفلَ التلاسيميَّ من نصفِ نظرةٍ.
هنا بالذاتِ لا ينبغي أن نحاضرَ، ينبغي أن نستنهضَ الهممَ بهذا الذي هو مشروعُ ميتٍ، أو ميتٌ مازال يمشي، ((فليس المُخَبَّرُ كالمُعايِن)) كما يقول النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ، سألتُ ليكونَ السؤالُ مفتاحاً للحديثِ:
- هل هذا الطفل تلاسيميٌّ؟.
بانكسارٍ أجابَ أبوهُ الذي يصطحبُه: نعم.
- هل لديك أطفالٌ غيرُه؟
- ولدانِ وبنتٌ.
- هل بينهم تلاسيميٌّ غيرُه؟.
- البنتُ وهي الصغرى بين إخوتها.
حاورناه في سببِ إنجابِه بعدَ أن تبيَّن له منذ أوَّلِ مولودٍ له أنه وزوجتَه ينجبانِ أطفالاً مصابينَ،- كنا لم نبدأْ بعدُ بالتعريفِ بالمرضِ، والتفريقِ بين المريضِ بالتلاسيميا وبين حاملِ سِمَتِها - فعزا الأمرَ إلى رغبةِ الزوجةِ بعددٍ كبيرٍ من البنينَ، ودافعَ بعضُ الحضورِ عن قناعتهم بأنّ هذا المرضَ ليسَ وراثيّاً، كونهم يعرفون كثيراً ممن أنجبوا أطفالاً أصحاءَ وآخرينَ مرضى.
إذاً فنحنُ في قريةٍ فيها الكثيرُ من المصابينَ، والكثيرُ من المدافعينَ عن الخطأ، والكثيرُ ممن لديهمُ الاستعدادُ للمخاطرةِ بمستقبلِهم ومستقبلِ أبنائهم المحتملين، بينما ينبغي أن تكونَ القريةُ موعظةً لأبنائها قبل أن تكونَ موعظةً للعالمِ بأسرِه، حيث هي الأولى – على صعيدِ العالمِ – بهذا المرضِ كما اتضحَ لنا فيما بعدُ، خاصَّة وأنها تنتمي إلى جدٍّ واحدٍ، وأن أبناءها كلَّهُم أبناءُ عمومةٍ قاصيةٍ أو دانيةٍ، فعدد المرضى الذين هم تحت العلاج سبعة أطفال، وعدد الذين ماتوا سبعة عشر، بينما عدد الذين تربطهم علاقات قربى ومصاهرة بالذين ماتوا أو الذين يعالجون؛ فهم ألفا شخص، الذين هم سكان قرية بغديك، والذين لا يتزوجون ولا يزوِّجون إلا من أبناء عمومتهم ولأبناء عمومتهم.
راعنا الأمرُ رغم معرفتنا بأننا نعمل في محافظةٍ نظنها الأولى على مستوى العالم في هذا الداء، مع أننا لا نملك إحصاءاتٍ دقيقة، لكن المروع أكثر ما تحدَّث به الرجلُ الذي كان يجلسُ بجوارِ محمد مصطفى علي ذلك الأبِ البائسِ، إنه قريبه والأكثر منه بؤساً عبد الكريم محمد علي والدُ الثمانيةِ الذين قضوا وفتاةٍ في الثامنة عشرة مازالت تنتظر، قال:
كنتُ أوسعَ أهلِ هذه القريةِ رزقاً، وألينَهم عيشاً قبل أن أنفق كلَّ ما أملكه على أبنائي الذين دفنتهم واحداً تلوَ الآخر، وحين نفضتُ يديَّ من ترابِ آخرهم قبلَ أربعين يوماً؛ كنتُ قد نفضتُ يديَّ من آخر شيءٍ كنت أملكه، ومازلتُ أصطحبُ بنيتي التاسعةَ لتبديلِ دمِها في المستشفى الوطنيِّ في الرقةِ، على ذاتِ المسافة البالغةِ مائةً وثلاثين كيلومتراً، تلك المسافة التي ما من خطوةٍ عليها إلا وسلبتني ثمانِ فلذاتٍ من كبدي، وجهدَ ربعِ قرنٍ من عزمي، وهمَّ اصطحابِ أطفالي المرضى، ورزقاً لم أنفقْه لجلبِ السعادةِ لهم، بل لدفعِ الشقاءِ عنهم ما استطعتُ، لكنهم ذهبوا وذهب رزقُهُم معهم، وظلَّ الشقاءُ معيْ، ومازالت البُنَيَّةُ والطريق والمستشفى والدَّمُ حتى ((يقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً ليهلِكَ من هلكَ عن بيِّنَةٍ ويحيا من حيَّ عن بينةٍ)).

10/10/2005
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon