مما لا شك فيه أننا نحيا تحولات لا سابق لها في جميع مجالات الحياة، ومشكلة هذه التحولات أنها تمس جميع الناس كباراً وصغاراً، ولربما يكون تأثيرها في الصغار أكثر، فعالم الكمبيوتر والأنترنت والهاتف المحمول والطائرة النفاثة، وغير ذلك من الوسائل التقنية ؛ سيبدو طبيعياً في نظر أولئك الذين تعرفوا عليه منذ بداية وعيهم، ولا شك من ان تلك الوسائل قد ترافقت مع أبحاث ودراسات مهمة اختصت في الإنسان نفسه ـ سيكولوجية وبيولوجية ـ منذ نشأته، لا بل منذ يومه الأول في الرحم إلى أن تتوقف خلاياه عن التجدد، ويتجمد الدم في عروقه، وينتقل إلى سرمدية العدم. فهل يحق لنا ـ بعد أن أدركنا ذلك يقيناً ـ أن ننظر إلى مشاكل اطفالنا بنفس اللامبالاة التي كان أهلنا في الماضي ينظرون إلينا بها أو إلى من سبقنا من الأجيال، حتى وإن كانت تلك المعاملة تقوم على العطف والحنان ؟! فالعطف وحده لا يكفي، وليس بالخبز وحده يحيا الانسان.. لابد إذاً من وضع الحقائق العلمية التي توفرت عن الطفولة موضع التنفيذ، والسؤال: من أين نبدأ ؟ وحتى لا أضع نفسي في موقع المجيب ؛ فالإجابة على هذا السؤال لا يتسع لها مقال. رأيت أن أكتب ما أعرفه عن الطفولة ؛ على أمل أن أضيف إلى ما تعرفون شيئاً يستحق القراءة والمتابعة، وقد أخذتُ النزعة اللفظية عند الأطفال انطلاقاً من كون اللغة أمَّ الفكر وابنتَه بآن، وقد رأيت أن بعض الأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة من أعمارهم يرددون كلماتٍ وجملاً اعتقدت أنهم يعرفون مدلولاتها، وحين سألتهم عن معانيها فاجأتني الأجوبة، فعدت إلى المراجع المختصة لأكتشف النتائج الكارثية لتلك الآفة التي اسمها " النزعة اللفظية " ومنهم من سماها " داء اللفظية "، وهذه النزعة تتولد في الأطفال الذين يتعرضون إلى أساليب التحفيظ اللفظي، وإلى النصائح والارشادات المباشرة والأساليب التقريرية ؛ بدل الأساليب الفنية التي تقوم على بلورة الفكرة وتوضيحها في لغة معبرة تتناسب مع نمو الطفل العقلي، واستخدام أكثر من صيغة للتعبير عن نفسه تعبيراً صادقاً، دون أن نفرض عليه قوالب لفظية جاهزة لا يدري عن مكنونها شيئاً، فالطفل مرآة نفسه ـ أولاً ـ ؛ وما نسمعه من كلمات يرددها، لا يعني أبداً أنها دخلت ضمن قاموسه المعرفي، فكثيراً ما يكون لتلك الكلمات معانيَ مغايرةً لمدلولاتها الحقيقية، وحين تفقد الكلمات دلالاتها تخلو اللغة من الأفكار، وخلو لغة الطفل من الأفكار ؛ يعني خلوها من الأدوات الأساسية لبناء معايير شخصية، وهنا يجب الاشارة إلى الفرق بين الطفل الذي يواجه عجزاً في التعبير عمّا يريد أن يوصله إلى الآخر، وبين الطفل الذي ينطق بكلمات لا يعيها، فاستجابة الطفل للرموز اللغوية تنطوي ـ عادة ـ على قيامه بعمليات معرفية عقلية كثيرة، هي بمجملها ما ندعوه بالتفكير، " لذا فإن قاموس الطفل يتمثل في جانبين: أولهما الكلمات التي يعرف معانيها عند الاستماع أو القراءة، ويتمثل الثاني في الكلمات التي يستخدمها ". وهذا القاموس هو الذي يُمَكِّننا ـ إذا أردنا ـ من معرفة الدرجة التي تَوَصَّلَ إليها الطفل في استيعاب رسائلنا التربوية والتعليمية والثقافية، فالاستيعاب يشكل عملية مشتركة بين الحياة العضوية والنشاط الذهني للإنسان في أطواره الاولى. وعلينا ـ انطلاقاً من هذا القاموس ـ أن نستبعد كل ما لا يمكن تأسيس الطفل عليه ؛ أياً كانت قيمته.. فكل ما يمكن معرفته هو ممكن بواسطة العلم، وعلينا أن نخرج من طور العاطفة تربوياً ؛ إلى طور العلم والملاحظة، مع الاحتفاظ بمشاعرنا وعواطفنا لأوقاتهما الصحيحة.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon