بديل لجان الرقابة المسبقة..

خاص: نساء سورية

الشعوب أو المجتمعات التي تؤمن بالروح والكلمة تمجّد الجسد على حساب الكلمة، ولو كان هذا الجسد هو وعاء الروح، تبقى الروح المطرح السامي الذي يرقى بالجسد ويطالبه بالسمو والشموخ، لكن مجتمعاتنا تحاسب دائماً مرتكبي الجرائم ضدّ الجسد الفاني، ولا تفعل شيئاً حيال الجرائم الكثيرة والجسيمة التي تكون بها الروح هي المجني عليها، ولو لم تكن هذه الروح أقوى من إمكانيّة زوالها لما بقيت تجد لنفسها مكاناً في الصدور حتّى هذه الساعة.
وهناك العديد من التوصيفات لأعمال جرميّة يمكن أن يكون محلّ الجريمة بها الجسد أحياناً والروح في أحايين كثيرة، ومن بين هذه التوصيفات يظهر أبرز فعل جسيم يمكن أن يكون جرماً أخلاقيّاً شنيعاً.
يتطلّب لإثبات فعل الزنى ومعياره المادّي عدد محدّد من الشهود، ومحلّ الجريمة هنا لايتعدّى في أكثر حالاته جسديّ الفاعلين، وفي جميع الأحوال تبقى هذه الجريمة شخصيّة ولو انسحبت نتائجها نسبياً على شرائح المجتمع ففي جميع الحالات تبقى نتائجها السلبيّة تتّصف بالنسبيّة.. ومع ذلك بوّبت لآثاره السلبيّة ماديّاً آلاف الدواوين والقوانين، وسلبيّاته الأخلاقيّة أخذت مكان الصدارة في البحث والتمحيص.
كافة الحدود والقوانين تكلّمت ووضعت قصاصها وعقابها على الزناة جسديّا، لكن  أحداً لم يتكلّم أو يضع قصاصاً للزناة بالروح والفكر، مع أنّ الجريمة هنا أبشع ومحلّها أو مطرحها أوسع وأعمّ وأشمل أفقيّاً وعموديّاً.

والسؤال :
هل يوجد من يبحث في الآثار السلبيّة الواسعة ماديّاً وأخلاقيّاً لجريمة "الزنى الفكري"، مع أنّ أركانه الماديّة واضحة المعالم وإثباتها لايحتاج لشهود وذلك  لوضوح تلك الأركان، والنيّة الجرميّة ( القصد الجرمي) متوفّرة أو يمكن إثباتها من الضرر الكبير الناتج عن ارتكاب مثل هذا الفعل، والمفترض أن لايفيد عذر الجهل بالنتائج أو (حسن النيّة)؟.. وجميع حروف حالتنا الثقافية تنضح وتضجّ بهذه الجريمة المستمرّة.. والناتجة عن إيلاج عقولنا من قبل زناة فكر احتموا بتلك اللجان المسبقة.
أعلم أن المشكلة التي سنصلها فوراً تتجسّد في من هو المخوّل بتحديد هؤلاء المجرمين، أو من يحقّ لـه إعطاء أحكامه على هذه الطروحات. قبل كلّ شيء لايمكن أن تكون هذه الجهة ممثلّة بتفكير أشخاص وإلاّ  (كأنّك يابو زيد ماغزيت). ولأنه دائماً علينا أن نضمن للجميع طرح أفكارهم، والزمن والوجود كفيلان بتزاوج الرّوح والجسد لما هو أفضل وأرقى. وبذلك نقطع الطريق على هؤلاء الزّناة الفكريين الذين صنعوا المؤسسات المجتمعيّة على قياس ما يريدونه من زنى.

لا بد من العودة قليلاً لما هو موجود والانتقال معه لما هو مطلوب:
(( لن نستطيع كشف معظم المغالطات والمخالفات الناتجة عن حسن أو سوء نيّة.. وبالتالي التصرف بشفافية..  ما دامت هذه الحقيقة تصطدم بجدار حقيقي يدعى "لجان الرقابة المسبقة الشخصية")).
في كلّ مؤسّسة من المؤسسات التي تُعنى بالأدب والفن والرقابة لجان تدعى الرقابة على النصوص.. وهذه اللجان تمنع وتسمح حسب ما تراه مناسباً ((لصالح البلد والمجتمع)) هذا هو منطلق وجود هذه اللجان. لكن في النهاية هذه اللجان تتكوّن من أشخاص (مثقّفون ومتعلّمون.. ربما) لكن الحقيقة تنبئ وتنتج رقابة شخصيّة لا ضمان بها إلاّ الضمير. ومتى كان معيار الضمائر ثابتاً؟.. والمشكلة تتبدّى عندما تُمارس الرقابة بشكلٍ شخصي لا موضوعي.
 والمساوئ تتبدّى من النتائج التي وصلنا إليها في مجال الأدب والفن والثقافة العامّة.
لنأخذ مثلاً: في مجال الصحافة المكتوبة (لا تشكيكاً بصحافتنا.. لكن لبناء مثل) لو حدث ولمس أحد المواطنين أو حتّى أحد الصحفيين مغالطة مدير عام وأرسل ما لديه من قضايا إلى الجريدة.. قطعاً نشر هذا الموضوع يعتمد على موافقة هيئة التحرير إذا لم نقل رئيس التحرير.. وكم من مواضيع وتقارير وريبورتاجات لا تنشر بحجة أو بأخرى بسبب عدم موافقة هيئة التحرير على ذلك.. وكم من مواضيع وريبورتاجات حذفت منها مقولة أو طرح وبذلك يوجّه اللقاء لغير الوجهة التي قصدها صاحب العلاقة.. الغرض من المثال هو في السؤال التالي: عمليّة عدم النشر هل يمكن أن يكون لها أيّة نتائج؟.. إطلاقاً فقط وأد الموضوع أثناء المخاض ولا أحداً يدري أو يسمع بما حدث.
أي عمل ثقافي يرفض بكلمة واحدة (لا يسمح) ولا يحق لك كأبّ عمل أن تطّلع على تقرير "القارئ" وحتى إن حدث واطّلعت بطريقة ما فلا يحقّ لك مناقشته فيما ذهب إليه وبالمطلق لا يحق لكَ أن تعلم من هو..
واهمّ ما في الموضوع أن رؤساء وأعضاء هيئات التحرير او أعضاء لجان قراءات نصوص الأعمال هم صحفيين او كتاب او مسرحيين.. كلٌّ حسب موضوع ما يقرأ.. للوهلة الأولى نرى إيجابيّة الموضوع .. من حيث العدالة في الموضوع.. حيث أن الصحفي يراقب مقالاته صحفي والأديب يراقب مقالاته أديب والمسرحيّ والشاعر كذلك. نظريّاً لا غبار على هذا الكلام. لكن هذا الرقيب في النتيجة هو يحكم على موضوع متّصلاً بالحياة فهو يأخذ دور القاضي وأيّ قاضي (قاضي حياة أو موت) وبنفس الوقت هو "خصم" (لماذا هو خصم؟.. "ببساطة لأنه ابن كار.. هذا إذا لم نعوّل لأشياء أخرى عديدة" ولو كان خصماً شريفاً (فهل يمكن أن نقبل بالمحاكمة أمام قاضٍ خصم)

ولعدم الإطالة ولأن التجربة أثبتت عقم هذه الطريقة ولا أدلّ على ذلك من وجود الفساد المستشري والهبوط في الثقافة العامة في المجتمع.. لما تقدّم أيها السادة أقدّم هذا الاقتراح:

لما لا يصدر قانون جديد يسمى (قانون الرقابة المسبقة) ينسف لجان الرقابة المسبقة على الفكر والأدب والفن.. بأنواعها ويتمّ تشكيل مؤسسة رقابة أخرى تعمل على مبدأ موضوعي لا شخصي.. كيف..؟ كما يلي:
1.  أن يحتوي قانون الرقابة المسبقة مجموعة مواد تمثّل الممنوعات (كالذمّ  والقدح والتشهير والتحقير- الطائفية- الدينيّة- ..الخ) وان تحدّد العقوبات الرادعة للمخالفين ولا ضرر لو كانت  شديدة اكثر ممّا وردت بقانون العقوبات الوضعي الموجود لدينا ويطبّق حالياً أمام محاكمنا.
2.  أن يحق للمواطن ينقد من يشاء من أصغر هيئة ومسؤول إلى أعلاها.
3.  أن يكون عديد المؤسسة الرقابية من ((القانونيين)) وأن تكون هذه المؤسسة مركزيّة وواحدة لكل الأعمال الثقافية ما عدا الصحافة (سنتحدث عنها لاحقاً).. وان (لا يحقّ لها إطلاقاً ان ترفض أي مخطوطة.. نعم لا يحق لها رفض أي عمل ولا حتى كلمة فية).. ماهيّتها كيفيّة عملها:
أ‌.   أن تؤسس دائرة رقابة (من القانونيين) مستقلّة عن كلّ الوزارات. لتكن مؤسسة مستقلة.
ب‌. هذه المؤسسة الرقابية القانونية ستعتمد حصراً المواد التي ذكرها القانون في هذا المجال لتكون هذه المواد هي المعيار في رقابتها وملاحظاتها.
ت‌. أن يدفع كلّ متقدّم بعمل ثقافي رسماً ماليّاً يقدّر مسبقاً بحيث يغطّي قسماً من أتعاب الرقيب (المحامي).
ث‌. على المحامي الرقيب قراءة المخطوط وإبداء ملاحظاته القانونيّة فقط على ثلاث نسخ  وإيداع ديوان المؤسسة نسختين من تقريره نسخة للحفظ ونسخة للإطلاع لمن يهمّه الأمر ونسخة لصاحب المخطوطة. وفي مطلق الأحوال لا يحق لـه رفض كلمة في العمل مهما كان بها.
ج‌.  إظهار العمل للعلن يكون على مسؤولية صاحبه في القضايا التي نُبّه عليها من قبل الرقيب القانوني.. وعلى مسؤولية المحامي في القضايا التي لم يتمّ تنبيه صاحب المخطوطة وفيها مخالفة لقانون الرقابة المسبقة.
4.  أن يسمح لمن يريد ضمن شروط تحدّد بشكل (مسبق وعام) بإصدار الجرائد والصحف والمجلات.
أ‌.   أن تحدّد لجان رقابة فرعية ضمن هذه الجرائد والصحف والمجلاّت من قبل مؤسّسة الرقابة المركزيّة السابق ذكرها وان تكون من القانونيين كذلك.
ب‌. يودع القارئ تقريره بكلّ مقالة أو غيرها على ثلاث نسخ كذلك نسخة لديوان الجريدة ونسخة للمؤسسة المركزية ونسخة لصاحب المقال أو التقرير أو أو..
ت‌. لما تتطلبه عملية الصحافة من سرعة أكثر من الأعمال الأدبية والفنية والفكرية الأخرى على كاتب المقالة أو غيرها من المواد المرسلة للرقابة الصحفيّة عبء وضع عنوانه الكفيل بتأمين سرعة الاتصال به لإعلامه بتقرير الرقيب (القانوني) وبالتالي عليه يقع عبء قرار النشر من عدمه.
5.  ربّ قائل يقول ان هذه العمليّة ستؤدّي لتفاقم الأزمة حيث سيوجد من يخالف القانون بقصد التشهير او التحقير وخلافه.. لكن أمام هذا الواقع نطرح التساؤل التالي: لو حدث وحصلت هذه المشكلة أليس أهون ألف مرّة أن يتحمّل مشهّر أو محقّر نتيجة عمله من الوضع الذي نحن فيه من فساد في الأداء وهبوط في الثقافة والفن والأدب.
6.  استطراداً للبند السابق.. محاكمة كلّ مخالف بناء على مخالفته الرأي القانوني المسبق المستند إلى قانون الرقابة المسبقة.. وتكون محاكمته أمام المحاكم الجزائية المختصّة وبشكلٍ علني.. وإشهار هذه المحاكمة عن طريق التلفزيون لما بها من الفائدة المرجوّة.
7.  أن يتمّ الفصل الأكيد والواضح بين الثقافة والإعلام. فالثقافة حاجة عليا للمجتمع. ولهذا (ولو كان في طرحي شيء من الغرابة).. لهذا كان الأجدر عدم وجود وزارة للثقافة. لكن وبوجود الوزارة أن ننظر للموضوع كما يلي:
أ‌.   أن تكون مهمّة الإعلام المسموع والمقروء والمرئي الرسمي: طرح للقضايا التي تؤمن بها الحكومة القائمة بكل السبل الممكنة وان لا تسأل فيما ذهبت إليه من ترويج (والإعلام الناجح هو الذي يقنع مستمعية ومشاهديه بكلّ طرق الإقناع ما عدا الخطابيّة وما شابهها) وان يكون ذلك واضحاً لا لبس فيه...
ب‌. أن لا تروّج مؤسسات الإعلام لمؤسسة رئاسة الجمهورية. لكي لا يتمّ الخلط والاتّكال على الرمز من قبل السلطة التنفيذية وإداراتها في تغطية كلّ مخالفاتها (حيث يحدث هذا بالغالب مثلاً: لا يستطيع المواطن ان ينتقد مسؤول بحجة أنّ هذا المسؤول يسير على نهج قائد البلاد ورمزها وبمعظم الحالات هو  يسير على نهجه الشخصي)
ت‌. أن تبتعد مهمّة الثقافة عن الإعلام وان تحصر اهتمامها( لا بتثقيف الجمهور بل بإيجاد السبل لخلق حالة ثقافيّة) بكلّ الطرق الممكنة وان تفتّش عن الطرق والأساليب التي تتمكن من خلالها أن تطال الحالة الثقافيّة الشارع كلّ الشارع لرفع هذا الشارع إلى المستوى الذي يستطيع ان يميّز به بين "اغنية وعدتينا تحت التينه".. وبين المسرح على سبيل المثال.

ايها السادة:
يخصّص لوزارة الثقافة  ملاك من الميزانيّة لطباعة الكتب وللمسرح.. هذه المبالغ لا بدّ سيحدّد بعض الأشخاص الوجهة التي تُصرَف عليها.. يقولون لا مسرح لدينا في حال غزت الحالة الغنائيّة جميع مطارحنا السياحيّة بغض النظر عن ماهيّة هذه الأغاني. ويأتي من يطلب زيادة المبلغ المعتمد من قبل الوزارة للمسرح لقولـه بأن مشكلة تأخّر المسرح تكمن في قلّة المبالغ المخصّصة لـه. هذا ما يبدو صحيحاً في ظاهره لكن الواقع يفرز حقيقة أخرى أدّق وأصحّ..

أيها السادة: هذا الملاك المادّي المخصّص للطباعة والمسرح سيفرز من يضنّون على الحالة المسرحيّة ليؤمّنوا مصالح ومكاسب شخصيّة ماديّة ولن يؤدّي إطلاقاً لخلق حالة مسرحيّة أو ثقافيّة بل سيعمد المستفيدون من هذا الملاك لمحاربة أيّ حالة ثقافية تخرج عن طاعتهم، ولا همّ هنا ما هي النوعيّة لأن الواقع يقول أن لا يسمح لأحد بأن يصل إنتاجه الثقافي من مسرح او طباعة إلاّ عن طريق أصحاب الحق في توجيه تلك الصرفيات..
فهم أيها السادة  من يمنح الموافقة ومن يمنع ومن يقرّر الصرفيات؟؟!!.

لا بد أخيراً من القول:
أن يتمّ التنسيق التام بين وزارة الثقافة ووزارة الإدارة المحليّة ووزارة السياحة للعمل على خلق حالة ثقافيّة (أقول خلق حالة ثقافية لا رقابة مسبقة على الثقافة).. تطال جميع مطارح المجتمع والجمهور.. وهذا كفيل بفرز الغث من السمين والسامي من الهابط.
 أعدكم بموضوع يراودني منذ مدّه عنوانه غريب بعض الشيء.. " الديمقراطية أرقى أشكال الديكتاتورية"!

12/8/2005
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon