على فراش الموت تحلّق أولاده الثلاثة حوله. بدأ يشرح لهم كيف يواجهون سنوات عمرهم الباقيه بعد رحيله. عمّار التركي يبدأ رحيله بعد قرابة المئة عام قضاها يدير تلك القرية التي يملكها بأهلها. فهو يمتلك أراضي ومشاغل قرية "العبّارة". هو لا يمتلك رقاب أهلها لكنه يمتلك رقاب أعمالهم وموارد رزقهم. عمّار هذا لم يكن تركيّاً لكن ولأن الجميع يعيدون سبب ملكيته للأتراك فقد بات لقب "التركي" ملازما له ونسي الناس كنيته الحقيقية. عاش حياته بين فلاحيه وعماله وقصره. متواجداً بينهم يتابع إنتاج حقوله ومشاغله، يحتويه إيوان قصره للتفكير فيما يفعل ومن على شرفته يصدر قراراته. كان يقوم بكلّ ما يلزم لاستمرار دوران عجلة الإنتاج دون الاستعانة بأحد أو السماح لأحد بالتدخل حتى لو كان التدخل من قبل أولاده الثلاثة. سامر الأكبر بين أولاده، ولسبب وجوده قبل أخويه فقد سبقهما في محاولة فهم الحقيقة. حاول الاقتراب من والده في أكثر المرّات التي يتّخذ فيها القرارات الواجبة التنفيذ. وكانت القرارات التي تتطلّب الصرامة في التنفيذ تستهويه أكثر من غيرها. وبات ينحو منحى الاعتقاد بأن القرار الذي يتضمّن العقاب الصارم هو الأجدر بالتنفيذ والبقاء. نوّار الولد الثاني ترعرع في الوقت الذي كان ما زال به الوالد مبهوراً بولده البكر يريده نسخة عنه. نوّار يجد نفسه متروكاً من قبل والده في أكثر الأحيان، يكبر ويشبّ على طعم الخيبة. يكره شرفة والده ولا يتوافق مع مرافقة العمّال والفلاحين للشمس في طلوعها ومغيبها، بل يهرب باتّجاه الصالات والملاهي ليترعرع على طاولاتها. أكرم كان الصغير الذي أتى متأخراً وأخيراً. أتى ليرى أمامه نقيضين من الأخوة، واحد يعتمد الصرامة في توجّهاته والثاني يقابل أيامه بلا قرارات ولا مبالاة. يجد نفسه يهرب منهما باتّجاه الملجأ الباقي في القرية المتمثّل بالعمّال والفلاحين، يترعرع بينهم للدرجة التي بدأ فيها الناس يحكون عن قصّة غرام بينه وبين إحدى بنات أحد الفلاحين. قصر عمار التركي لم يكن ينقصه شيئاً، كلّ ما يلزم وحتى كلّ ما يمكن أن يُطلب. وكان ذلك المقياس الوحيد الذي تبنى عليه صوابية القرارات التي يتخّذها. فما دامت أموره وحاجة قصره مؤمّنة فالقرية بخير ولا تحتاج للتفكير بأشياء أخرى ولو كان الفلاحون والعمّال وفي معظم الأوقات يحتاجون لمشاغل أكثر أو التفكير بإنتاجٍ أكبر لسدّ حاجاتهم المتزايدة. فالفيصل في الموضوع حاجة قصر عمّار التركي وكفايته. حتى في المرّات الكثيرة التي كان بها يخطئ التفكير عمّار التركي ويبني قراراتٍ صارمة على تخطيط فاشل تودي إلى إنتاج أقلّ أو غير سليم، لم يكن أمام العمّال والفلاحين إلاّ التهليل والتكبير لحنكة وحصافة وتدبير هذا العمّار الخارق، لسبب بسيط جدّاً فهموه وحفظوه عن ظهر قلب يتجلّى في تحميل بغلٍ للأغراض الشخصيّة القليلة لكلّ معارض والارتحال عن القرية. لكن إلى أين؟.. يرحلون لقرى يملكها آخرون من أمثال وقرائن عمّار التركي. انتهت كلّ الأوقات التي كان بها عمّار التركي يخطّط ويأخذ القرار ويلاحق تنفيذه، وهاهو على فراش الموت في وداعه الأخير لأبنائه. أراد قبل الرحيل الأبدي الاطمئنان على أبنائه واستمرار تنعّمهم بالثروة الطائلة التي يتركها لهم. أوّل ما طرح قسمة الأملاك بين الثلاثة. لكن وبعد التمحيص والتدقيق تبين عدم صوابية هذا الحلّ لما سينتج من مشاكل. سامر لم يتعرّف على طبيعة العمال والفلاحين ولا طبيعة تلك المشاغل والحقول بل بقي ينتبه لماهيّة القرارات الصادرة عن والده واستهوائه للصرامة فيها. أمّا أكرم الصغير فالمتوقّع انزلاقه للدرجة التي يمكن أن يتحكّم به العمّال والفلاحين لأنه عاشرهم وخبرهم للدرجة التي أمسى بها يعتبر واحداً منهم وهذا كان رأي والده. لكن المشكلة الكبرى برزت لدى تناول نوّار فلا بدّ هذا النوّار سيبيع أملاكه قطعة وراء قطعة ومشغل وراء مشغل ليؤمّن ثمن مشروبه إضافة إلى أنّه لا يعرف طبيعة الحقول ولا ماهيّة عمل المشاغل فكيف سيقرّر ما يفعل، فقد أمضى حياته الفائتة في المرابع الليلية والصالات.. - لكنّني كنت دائم التفكير. هذا ما ردّ به نوّار على والده. - فيما كنت تفكّر؟. سأل الوالد. - كنت دائماً أقضي سهراتي في نقاشات كلّ تلك الأطروحات التي يبديها العمّال والفلاحون وأعمل على توجيهها لتمتزج وتتلاشى مع دخان الصالات، وغواني المرابع الليلية. - لكننا لم نسمع منك في يوم أنّك اتّخذت قراراً بشأنٍ ما. - صحيح.. ربّما لأنّني لا أمتلك ميزة القرار. استمر النقاش إلى الوقت الذي يقرّر به الوالد عدم صوابية قسمة الأملاك بين أولاده. لحظات من الصمت.. - إذا لم نستطع قسمة الأملاك، فلنقسم الأعمال! هذا ما نطق به نوّار. الوالد يتوقّف لدى الطرح بطريقة توحي بأنّه أعجب بهذا الطرح. - لكن كيف؟.. هذا ما يسأله أكرم. الوالد متعباً يرفع يده بطريقه توحي لهم بالصمت فهو يفكّر. بعد فترة من الصمت، يبدأ كلامه الوالد بطريقة تؤكّد اتخاذه القرار. - في الحقيقة يتبدّى الحل من المساوئ التي ظهرت في طرح قسمة الأملاك. يتوقّف قليلاً عن الكلام في الوقت الذي ينظر به الأخوة إلى بعضهم.. ثمّ يتابع: - عليكم قبلاً التخلّص من لقب "التركي". ولتنتقوا أيّ لقب آخر مستوحى من القرية التي تملكونها. ثمّ يمدّ يده باتجاه أكرم الذي يقترب منه. يضع يده على كتفه متابعاً: - قضيت معظم أوقاتك بين الفلاحين والعمال. فتعرّفت عليهم وعلى طبيعة عملهم أكثر من أخويك، لهذا فلتكن أنت المسؤول عن الإنتاج بكلّ أنواعه ومراحله. يربت على كتفه في الوقت الذي يسارع به أكرم لتقبيل يده. ينتهي منه مشيراً لـ سامر الذي يتقدّم منه: - أمّا أنت يا سامر وبما أنّك رافقتني أكثر من أخويك، وكنت قريباً منّي في كلّ مرّة أتّخذ بها القرار. فلتكن مسؤولاً عن إصدار القرارات التي تسير بالقرية في كلّ الأوقات إلى الأمكنة التي تؤمّن مصالحكم أنتم الثلاثة. ينظر لنوّار مبتسماً ابتسامة ما قبل النفس الأخير قائلاً: - ولأنك أمضيت ما فات من عمرك في المرابع والصالات، وخبرت نوعيات الناس المختلفة في هذه القرية فلن يجد أخويك أنسب منك للردّ على كلّ الطروحات التي يمكن أن يطرحها أهل القرية. فلتكن صمام الأمان والمخوّل في المنع والمنح والرد على كلّ ما يمكن أن ينتجه الفكر.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon