الفاعل..

خاص: نساء سورية

خطوة واحدة وتطلّ الشمس إلاّ أن البعد كان سيّد الموقف. ما زال الصباح معانداً بخطوته المتبقيّة، رغم صياح الديك بنهاية كلّ ليلة معلناً قدوم الصباح، لكن لا صباح يُعلَنْ. ومع ذلك طُلِبَ إليّ أن أتقدّم بأطروحتي من ربّ الفجر. أطروحتي التي تتضمّن حالة اجتماعية تدرّجَتْ منذ أن كانت تلد الآلهة إلى أن أصابها العقم. أحاولُ فيها ما أستطيعه علّ الصباح يمنّ علينا ببعض البشرى.لكن للأرباب طريقتها التي لم تتغيّر في التعامل مع عبيدها، قبل أن أهمّ بطرق الباب وجدتُه يُفتحُ على مصراعيه. فكانت أوّلُ قطرات غيث الأمل، وبات عليَّ إثبات وجودي.. فلا أبواب موصدة.
كان الربّ يتكئ على أريكة القرار ويمتلئ به المكان حتّى أحسست لا وجود لذاك الإيوان الممتدّ بلا نهاية. تقدّمتُ منه مناجياً:
- سيّدي.. هذه أطروحتي، أرجو أن تجد الوقت لديكم للإطّلاع.
وهي بيدي نظر إليها نظرة العارف ثمّ سأل غاضباً:
- كيف تنصب الفاعل.
- مولاي.. لم أنصب ولم أرفع.. تركتُ جملي تأخذ المنحى الذي يتناسب وطبيعتها.
- لكنّني أجد الفاعل – ورغم قلّته في جملِكْ- أجدهُ منصوباً وهذا خطأ لا يغتفر.
- ربّما كان النصبُ من طبيعته يا مولاي.
- كذلك.. نعم كذلك أجدُ جملكَ تستغني عنه شيئاً فشيئاً.. ما هذا؟!..
يتقدّم من أطروحتي اكثر ويتابع استفساره:
- أجد غيابه تماماً في أوراق لاحقة.. حتّى باتت عباراتك تعتمد أكثر على.. ماذا؟.. لا لا، لا تعتمد فقط فقد باتت جملك في آخر الصفحات تقتصر على المفعول به..
ينظر إلى غاضباً، ثم يتحوّل غضبه للاستخفاف بي وبأطروحتي قائلاً:
- هذا لعب.. كيف تعتبرها أطروحة.. اخرج اخرج.. رتّبها ثم عد.
عدتُ أستعين بكلّ منتجات أدب البشريّة التي تُعنى بهيكلة الحدث وترجمته بناءً على الواقع. لم أجد واقعاً خلا به فاعلٌ قد رُفِعَتْ أطرافه إلاّ وأمسى مفعولاً به.اللهم إلاّ الفاعل الذي صار وأسّس و بني على النصب بحقيقته إنّما قد حَملَ التاريخ بعددٍ من المتملّقين الذين أكّدوا على رفعه.
عدتُ أحمّل أطروحتي بعض المفاهيم والعبارات الجديدة التي تختزن في ذاكرتي..
أتذكّر سؤالي لوالدي في كلّ مرّة يعود بها للبيت في أواسط الليل منهكاً يضجُّ المكان برائحة عرقه:
- لِمَ يا أبي؟
يتعبُ أكثر وهو يشرح لي قيمة الفاعل، أستغرب رفعه لـه بالشرح في حين لا يستطيع لفظه إلاّ بكسره لـ "فيعل". وفي كلّ مرّة كان يغفو قبل إتمام شرحه فأقتنع أكثر بأنّه مفعولٌ به. لكن ما كان يحيّرني طيلة الليل في تلك الغرفة الوحيدة التي تضمّ إلينا تلك الأم التي تنظر إليَّ بعين الحسرة على شبابها والتي أكّدت كلّ مدارس الأرباب بأنّها مفعولٌ به بامتياز ورضيت هي بذلك ومع هذا أمست مجرورة للمفعول لأجله.
وتبيّنت سبب نكوص البلشفيّة التي أعطت الفاعل أو كما يسميه والدي "فيعل" أو حتى كما أسمته الماركسيّة "شغيل" حيثُ أعطته قيمة الرفع والتي لا تتوافق والواقع الذي يؤكّد الرفع في أطرافه فقط مؤكّداً في توارده على انسجامه والمفعول به أكثر.
عدتُ أطرق باب "ربّ الفجر" وجدتُ أبواباً تحتار أيّ باب تطرقه أوّلاً. انتهت حيرتي بعد سنوات عديدة عدت بها لأوّل باب قرّرت طرقه بعد أن ولجت كامل الأبواب. يعود دلاّل الباب الأوّل يوجّهني باتّجاه ربّ آخر وهناك أجد كلّ الأجوبة.
ما كان يحيّرني عقود السنوات التي مرّت وأنا أطرق تلك الأبواب المتاهة لم أرَ بها شروق الشمس ولو مرّة واحدة مع أن البعض يقول بوجود الليل والنهار.
لكنّ أحدهم يهمّ ويوشوشني بقدوم الفجر شارحاً وموجّهاً لي بأن عصر الفاعل والمفعول به قد ولّى..
ماذا!.. إلى ما يرمي؟.. هل يريد إفهامي بالذهاب والعودة بعد ترتيب الأطروحة من جديد. لا هذا لا يمكن أن يحدث ثانية فأنا أحتاج لحياة جديدة من أجل العودة ثانية والطواف على كامل الأبواب بل وربّما وجدتُ أبواباً أخرى.
عدتُ مهموماً أحمل أوراق أطروحتي كعدوّ تجب ملازمته. رحتُ أفكّر لمَ.. نعم لمَ أنا مصمّم على تقديم الأطروحة. وما الفرق بين تقديمها من عدمه!؟
الغريب أن الفاعل يوصف بالرفع هو ونائبه في جميع حالاته فكلّما كان فاعلاً كان مرفوعاً. لما لم يُبنَ الفاعل على النصب وكنّا فهمنا حقيقته منذ بدء البشريّة.. لكن.. لمَ أشغل نفسي في هكذا مواضيع لا تقدّم ولا تؤخّر، وما الفرق لو رُفِعَ الفاعل أو نصِب.
أردتُ رمي الأوراق لدى أوّل مفترق طرق وصلته.. فعلاً فعلتها ورميتُ بأوراق الأطروحة، تعود الأوراق ملازمة لي لا تريد تركي، ومفارق الطرق تهبّ بوجهي ناطقة:
- كيف ترمي بأوراق وجودك قبل أن ترمي بهذا الجسد الذي يحملك؟..
- جسد.. أيُّ جسد تقصد؟!..
- جسدك يا هذا.. ألم تدرِ بعد بأن هذه الأوراق أوراق إثبات وجودك كمواطن في هذا الوطن!.
حملتُ الأوراق حتى التصقت بصدري أم أنّه صدري قد التصق بها لا فرق. ففي النهاية علمتُ أن لا قيمة لهذا الجسد بدونها. لكن بات لا فرقاً، فأنا أحملها منذ سنين عديدة سجّلها "قرونو" ربّ الزمن في سجّل وجودي لكن ربّ فجرنا أوصد كامل أبوابه بوجهي.
يأتيني من يسرُّ بأذني قائلاً:
- لا تهتمّ يا هذا.. لتكون مواطناً مرفوع الرأس لا مرفوع الأطراف.. فقط أكتب بخطّ يدك في هذه الأطروحة بأن الفاعلَ مرفوعٌ. أه.. هل هي قضيّة تستحقُّ كلّ هذا العناء؟.
أسأله باستغراب:
- كيف ذلك وهو مبنيٌّ على النصب.. لم أرَ من اعتمد القانون الوضعي أو الطبيعي وبقي فاعلاً.. لم أرَ من اعتمد الضمير والأخلاق وبقي فاعلاً.. لم أرَ من اعتمد المودّة والرحمة وبقي فاعلاً.. لم أرَ لم أرَ.. فقط كلّ فاعلٍ اعتمد النصب وبني عليه تابع كما هو.. فكيف تطلب منّي رفعه.
ضحكَ وضحكَ حتى اختفى.. وبقيت ضحكته تشرح لي:
أن كلّ قواعد النحو بوّبت لصالح الأرباب وأن لا فاعل ولا مفعول به خارج الواقع الذي نعيش. وتبينتُ على مضض بأن وطني مفعولٌ فيه وأنا حتّى أمسي مواطناً لا بدّ أن أكون مفعولاً به.

18/6/2005
  

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon